للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكامل المشروع، ولكن درجة النجاح لا يعلمها إلا الله لتوقف الأمر فيه على أشياء خفية لا تظهر للناس، ومنها الإخلاص، ولذا ورد في النصوص الدينية: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».

والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية، وحكمته فيها واحدة، ولكن هيئاته وكيفياته تختلف، واختلاف المظاهر في العبادة الواحدة لا يقدح في اتحاد حقيقتها ولا في اتحاد حكمها، لأن المظاهر قشور والحقائق هي اللباب.

وهذا الإمساك يشمل في اعتبار الدين الكامل عدة أشياء جوهرية تمسك المسلمون بالظواهر منها كالإمساك عن شهوة البطن، وغفلوا عن غيرها وهي سر الصوم وجوهره وغايته المقصودة في تزكية النفس، وأهمّها الإمساك عن شهوة اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة، ومنها اطمئنان النفس وفرحها بالاتصال بالله، ومنها تعمير النهار كله بالأعمال الصالحة، ومنها الحرص على أداء العبادات الأخرى كالصلاة في مواقيتها، ومنها كثرة الإحسان إلى الفقراء والبائسين وإدخال السرور عليهم بجميع الوسائل، حتى يشترك الناس كلهم في الخير فتتقارب قلوبهم وتتعاون أنواع البر على تهذيب نفوسهم وتصفية صدورهم من عوامل الغل والبغضاء، وتثبيت ملكات الخير فيهم.

ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم أنه تجويع إلزامي، يذوق فيه ألم الجوع من لم يذقه طول عمره من المنعمين الواجدين، وفي ذلك من سر التربية ما هو معروف في أخذ الطفل بالشدة في بعض الأوقات، ومن لوازم هذا التجويع ترقيق العواطف وتهيئة صاحبها للإحسان إلى الفقراء المحرومين، فإن مَن لم يذق طعم الجوع لا يعرف حقيقة الجوع ولا يحسّ آثاره ولا يتصوّره تصوّرًا حقيقيًا، ولا يهزّه إذا ذكّر به، فالغي الذي لم يذق آلام الجوع طول عمره لا يتأثر إذا وقف أمامه سائل محروم يشكو الجوع ويصف آلامه ويطلب الإحسان بما يخفّف تلك الآلام، فيخاطبه وكأنما يخاطب صخرة صمّاء، لأنه يحدّثه بلغة الجوع، ولغة الجوع لا يفهمها المترفون المنعّمون وإنما يفهمها الجياع، فكيف نرجو من هذا الغي أن يتأثر وأن يهتزّ للإحسان، وهو لم يَجُع مرة واحدة في عمره، فهو لا يتصوّر ألم الجوع، ومن لم يتصوّر لم يصدق، ومن لم يحسّ بالألم لم يحسن إلى المتألمين. ولو أن المسلمين أقاموا سنة الإحسان التي أرشدهم إليها الصوم لم ينبت في أرضهم مبدأ من هذه المبادئ التي كفرت بالله وكانت شرًّا على الإنسانية.

وأنا فقد عافاني الله من وجع الأضراس طول عمري فانعدم إحساسي به، فكلما وصف لي الناس وجع الأضراس وشكوا آلامه المبرحة سخرت منهم وعددت الشكوى من ذلك نقيصة فيهم هلعًا أو خورًا أو ما شئت، وفي هذه الأيام غمزني ضرس من أضراسي غمزة

<<  <  ج: ص:  >  >>