للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفريقين في عشرات القرون، فأصبح الخروج عنها كالخروج من الحياة، ولكل من السيادة والعبودية آثار متطرفة في نفوس أصحابها لا يجمعها وسط، فالسادة تعوّدوا الاعتماد على العبيد في تصريف مصالحهم الحيوية المتنوّعة شريفها وخسيسها من منزلية وفلاحية، فإذا فارقهم العبيد ضاعت تلك المصالح كلها إذ لا يستطيع القيام بها بنفسه، فضاعت المصالح فاختلّ التوازن الاجتماعي، والعبيد تعوّدوا الاعتماد على السادة في معاشهم وكسوتهم وتدبير ضرورياتهم كلها فإذا فارقوهم وتحرّروا دفعة واحدة لم يستطيعوا الاستقلال بالحياة، واختلّ التوازن الاجتماعي أيضًا.

فجاء الإسلام بعلاج المعضلة، وهو أنه حرّم من أول يوم معاملة العبيد بالقسوة التي كانت مألوفة يرتكبها المالك لأنها شيء معتاد، ويتحمّلها العبد لأنها شيء معتاد فأوجب معاملتهم بالإحسان والرفق والرحمة، وبالغ نبي الإسلام في التلطّف والحنو على هذا الصنف حفظًا للكرامة الإنسانية، فسمّاهم إخوانًا للمالكين وفرض لهم المساواة معهم من المأكل والملبس وحدّد لهم مقدار العمل، فقال في حديثه المشهور الذي هو دستور كامل لهذه القضية في جمل قصيرة، ولفظه في حديث أبي ذر: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللهُ تَحْتَ يَدِهِ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ».

ومن عرف مقدار تأثّر الصحابة بالدين ومبالغتهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ومسارعتهم في تنفيذها، عرف أنهم نفّذوا هذا الدستور بمجرد سماعه كما وقع لأبي ذر راوي الحديث، فإنه كان لا يستأثر بأكلة دون غلامه ولا يلبس حلة إلا ألبس غلامه مثلها.

من لي بالباحث الغربي المنصف المُبَرَّإِ من وصمة الغرض والحقد والهوى ليعلم مواقع الإنسانية في دين الإسلام- وما أكثرها- ثم يعلنها في قومه، وإذًا لأعلن كثير منهم إسلامه بإعلانها. ومن مواقع الإنسانية في الإسلام ما شرعه هذا الحديث العظيم في معاملة العبيد، فليعلم هؤلاء الباحثون الجاهلون لمحاسن الإسلام، أو المتجاهلون لها، وليعلم من بعدهم الواضعون للقوانين من بني جلدتهم، والمسيّرون لشعوبهم من الحكام ليعلموا جميعًا- فيما يعلمون- أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سبقهم من أربعة عشر قرنًا إلى إعلان حقوق الإنسان التي ما زالوا يتخبطون فيها بين السلب والإيجاب، وما زالوا ينقضون بالفعل ما أبرموه فيها بالقول، وليعلموا جميعًا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سبقهم كذلك إلى إعلان حقوق العبيد وإقرار الكرامة الإنسانية لأول مرة في تاريخ العالم- بل نقولها جهيرة مدوية لا تتوارى بحجاب ولا تستتر بجلباب، أنه أعلن بحديثه السابق ولأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية إلغاء الرق الذي يتبجحون بابتكاره، ولكن بمعنى حكيم غير الذي يفهمونه من الإلغاء المسطّر على الأوراق في قوانينهم: أنه محا آثار الرق في نفوس الأرقاء، وآثار الاسترقاق في نفوس السادة، وأي

<<  <  ج: ص:  >  >>