للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التغلب على نزعة الاستعمار والإقلاع عنه، لأنها أصبحت مرضًا في نفوسهم، مسلطًا على مراكز تفكيرهم، مالكًا عليهم آفاقها.

وعلى هذا فكل ما يبذله العالم الواعي في سبيل القضاء على الاستعمار هو سعي ضائع، ووضع للهناء في غير موضع النقب، ما لم توجه الجهود الصادقة إلى علاج المرض في نفوس المستعمرين، فقد رأيناهم لتحكم هذا المرض فيهم لا تستنفد منهم فريسة حتى ينشبوا أظفارهم في فريسة، حتى كأنهم الطائر الذي وصفه الشاعر بأنه "لا يرسل الساق إلّا ممسكًا ساقًا" فالانكليز- مثلًا- أكرهوا على الجلاء عن القنال، فغرسوا أذنابهم كالجراد في شرق الأردن وفي ليبيا، وقد أصبح كل مستعمر يزعم أنه لا حياة له بدون المستعمرة الفلانية، فإذا أزيح عنها- بعامل من العوامل- اعتدى على غيرها ممن هي أضعف ناصرًا وأقل عددًا.

فمَنْ أوتي الحكمة، واستغشى الإحسان والرحمة، فليبدأ بعلاج صرعى الاستعمار، ليشفيهم من الصرع فينقذ العالم من الصراع.

...

إن انكلترا وهي نبية الاستعمار، الآتية بصحفه الأولى، المدونة لشرائعه، المتلقية لوحيه - من الشيطان- أحست بخطر هذا المرض الوبيل، وأنه قاض عليها إن لم تقض عليه، فعالجته بعدة أشفية سطحية، وغالطت نفسها والناس بتغيير اسمه، وتشويش حده ورسمه، وإعطاء شيء من الخبرة لمن أعان على إحضارها، فكانت أعقل من غيرها، وأبعد نظرًا في الجملة، ولكنها لعراقتها في الاستعمار، وتمكن مرضه منها، لم تزل مملوءة الجوانح بالحنين إليه، والشوق إلى وصاله، والتعلل ولو بطيف خياله، ومن آيات ذلك الحنين تأييدها لكل مستعمر في كل قضية استعمارية، فكأنها تلك الأعرابية صاحبة الحكاية المشهورة.

والمستعمرون اليوم أقوى الناس شعورًا بمصاعب الاستعمار ومتاعبه وما يجره عليهم من الويلات، وأيسرها عليهم حقد المظلومين، وتربص الموتورين، وتألب المغلوبين، وحدوث مذاهب لا خير لهم في حدوثها، وهم لذلك أعلم الناس بأنه صائر إلى الفناء، ولعله لا يفنى حتى يفنيهم معه، ولكنهم مع ذلك كله لا يصبرون على فراقه.

ولقد حدثني الثقة قال: حدثني مسؤول من رجال العرب يشغل كرسي رئاسة حكومة عربية، قال: زارني بحكم وظيفتي جنرال فرنسي عائد من الهند الصينية في أيام اشتعال الحرب فيها، فسألته عن حالة الحرب الناشبة بين دولته وبين الأمة الصينية الهندية، فقال ما معناه: إنها "زفت" على دولته، فقلت له: إنني أخشى أن تتحرك الصين الشعبية ومن ورائها

<<  <  ج: ص:  >  >>