المصلحة لمسة ذاقت فيها حلاوة السلطة، فقالت بلسانها ما ليس في قلبها: دعت إلى تحرير الشعوب بلسانها وأضمرت لهم استعبادًا من نوع جديد يصحّ أن نسمّيه استعمار الاستعمار.
كل هذه العوامل صيّرت هذا الظرف القصير طويل الذيول، لا تقوم به أربع محاضرات.
ألقيت هذه المحاضرات ارتجالًا في أيامها المحدودة في أربعة أسابيع، على تلامذة قسم التاريخ في المعهد، وسرّني أن كان فيهم المصري والسوري والعراقي والفلسطيني والتونسي والمراكشي، وكلهم من المتقدمين في الثقافة، ومن عمار الصفوف النهائية في الدراسات العليا، وكانت إدارة المعهد- جريًا على أصولها- أشارت في رسالتها إليّ بكتابة المحاضرات، لتطبعها وتوزعها على الطلّاب، وليس من عادتي أن أكتب وألقي من المكتوب، ولكنني- نزولًا عند إشارتها واقتناعًا بسداد هذه الإشارة- كتبت بعد إتمام المحاضرات ما يحاذي معانيها، وما بقي في الذاكرة من بعض ألفاظها، ولم أقف عند حدود تلك المعاني فتوسّعت فيها وزدت عليها ما هو أصل لها أو متفرّع عنها، لأن الكتابة تبقى وتعمّ فائدتها، بخلاف الكلام فإنه أعراض سائلة زائلة، وألممت فيما كتبت بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمت، ومن يوم تعرّبت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي وهو أطول العهود فيها، مرورًا أهدأ مما سمعه الطلّاب منّي وأبطأ.
وأنا أرجو لهؤلاء الشبّان ولجيلهم أن يوفّقوا في وصل ما انقطع من روابط العروبة وأرحامها، وسبيلهم المهيع إلى ذلك أن يتعارفوا على أساس الأخوة والمحبّة، وأن يعرفوا هذه القطع المتجاورات التي وصلها الله وقطعناها، على أنها وطن العروبة الأكبر، ولئن فعلوا ليعودن للأمة العربية مجدها وسؤددها على أيديهم وليكونن بذلك أسعد الناس.