تعبد أصنام البشر، بعد أن أنقذها الإسلام من أصنام الحجر، ملك الجهل عليها أمرها، فهي لا تذكر ماضيها، ولا تحفل بحاضرها ولا تفكّر في مستقبلها، فهي تعيش بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، وهي لذلك تصحب الدنيا بلا أمل في المستقبل، ولا صلة بالماضي. أما حاضرها فهو كحاضر الغنم، يطرقها الذئب فترتاع ويغيب عنها فترتع.
الجزائر- يا شباب العرب- عربية الأنساب واللسان، شرقية النزعات والنفحات، مسلمة الدين والآداب، كانت وما زالت كذلك من يوم طلعت عليها خيول عقبة والغزاة الفاتحين من أجدادكم، ومن يوم غطّت سهولها أبناء هلال بن عامر بن صعصعة، آتية من صعيد مصر، في أواسط المائة الخامسة، وكان لبني هلال في تلك الإغارة الكبرى قصد، وكان لله من ورائها حكمة. كان بنو هلال يريدون من تلك الإغارة على افريقيا الشمالية مراعي واسعة لإبلهم وشائهم، وسهولًا خصبة لتنقلهم وانتجاعهم، وكان لله في تلك الغارة حكمة وهي تعريب هذه الأقاليم التي استقامت على الإسلام أفئدتها، ولم تستقم على العربيه ألسنتها، والفاتحون الأولون فتحوا الأذهان لتعاليم الإسلام، والإسلام يستتبع لغته، فحيثما كان كانت، ولكنهم- لقلّتهم- لم يستطيعوا تعريب هذه الأوطان الواسعة، ولا كان زمانهم يتّسع لذلك، وإنما يتّسع لنشر الإسلام وإقامة حدوده، وكتابة علومه، فبهذه اللغة ازدهرت العلوم الإسلامية في حواضر المغرب وأمصاره، وبها دوّنت أصولها، أما جماهير العامة فلم يعلقوا منها إلا بما تؤدى به شعائر الإسلام، فلما جاءت الغارة الهلالية كانت هي المعرّبة الحقيقية للشمال الأفريقي وجباله وقراه وخيامه.
فمن حق الجزائر عليكم أن تعرفوها وتصلوا رحمها وأن تدرسوا تاريخها الذي هو جزء من تاريخكم، وأن تعدوا محنتها محنتكم، وقضيتها جزءًا من قضيتكم، وإذا كانت قضايا بلدانكم الخاصة عقدًا تحتاج إلى الحل، فمن الخطإ أن تعتقدوا أن كل قضية تحلّ وحدها، فهذا طمع في محال، وتعلّق بخيال، فاجعلوها قضية واحدة تسهل عليكم تصفية الحساب، والقوا عدوّكم جميعًا، تلقوا أصمّهم سميعًا.
خدرنا الغرب بالوطنيات الضيّقة فأصبح كل فريق منا قانعًا بجحر الضب يناضل عنه بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزّقت الأطراف أن يحفظ القلب.
أصبحنا والمصري يتغنّى بمصر، واللبناني لا يرى إلا جبله، ودمشق تفخر بالمجد الغابر الذي شاده فيها مروان وعبد الملك، وبغداد مزهوّة بعهد الرشيد، من غير أن تطمح إلى أعمال الرشيد.
خدّرنا الغرب بهذا ليقسم الخبزة إلى لقم فيسهل عليه مضغها وازدرادها ثم هضمها، وقد حقّق غايته في الأولى والثانية ونحن معه في عملية الهضم، فإما أن نكون مغصًا في أمعائه، وعلة لموته، وإما أن يهضمنا فنستحيل غذاء له ومزيدًا في قوّته.