بجبل أوراس، فتعرّضوا له في السفوح الصحراوية لهذا الجبل، واستشهد هو وأصحابه ودفن في محل معروف باسمه إلى الآن، وأراد الله لثرى الجزائر أن يضمّ رفات هذا الفاتح الكبير، ليبقى اسمه منارًا يسترشد بنوره أبناء هذا الوطن كلما دجت الأحداث فيه.
وإلى هؤلاء الأبطال العظماء الذين جمعوا بين قيادة الكتائب وقيادة الأرواح، يرجع الفضل في تثبيت الإسلام وإرساء قواعده بافريقيا الشمالية، فلم تتزعزع له قاعدة، ولم ينقض له جدار من ذلك اليوم إلى الآن، على رغم الفورات المعادية له، المنبعثة من الضفة الشمالية للبحر الأبيض.
وشأن الفتح الإسلامي لأفريقية على يد هؤلاء الأبطال كله عجيب يشبه الخوارق، فقد تمّ في ثلاث سنوات تقريبًا وبسط الإسلام ظلّه على تلك الأقطار الواسعة ذات الأمم التي لا يحصيها إلا الله، من حدود ليبيا إلى السوس الأقصى على شواطئ المحيط الأطلسي، مع بعد الشقة ووعورة المسالك وقلة عدد المسلمين، وكثرة أعداء دعوتهم، وجهل الغزاة بمعالم الوطن ومجاهله، وبعادات أهله ولغاتهم، ولكنه الإيمان والإخلاص فيه وصدق العزيمة، وإيثار الحق، ولم تزل هذه الغرائب التي صاحبت الفتح الإسلامي في الشرق والغرب مثارًا لدهشة المؤرّخين من المسلمين وغيرهم، وهم مجمعون على أنها حق وواقع، وإن كانوا يختلفون في تعليلها.
وجاء بعد عقبة نفر يعدّون من بناة التاريخ الإسلامي بالشمال الافريقي: زهير بن قيس البلوي، وحسّان بن النعمان الغسّاني الذي تمّ على يديه فتح البلدان وفتح العقول، وجمع بين المقدرة الحربية والدهاء السياسي والملكة الإدارية، فكان هو الممهّد لهذه المملكة الواسعة التي كانت قاعدتها القيروان، وهو الذي خطا الخطوة الثانية التي تكون بعد الفتوحات الحربية فأقرّ الأمن، ومكّن للعمران والاستثمار، فنشط الصنائع والعلوم، وأفاض عدل الإسلام وإحسانه، فنقل الناس في إقبالهم على هذا الدين من عامل الرهبة إلى عامل الرغبة، إذ رأى البربر أن ثمرات هذا الفتح عائدة عليهم، ورمى ببصره إلى ما وراء البحر فنبتت في أيامه فكرة غزو الأندلس الذي حققه بعده موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد الليثي، عام اثنين وتسعين للهجرة.
والجزائر لم يتبدّل موضعها الجغرافي من الشمال الأفريقي، وإنما تبدّلت أوضاعها السياسية، والحق أنه ليس للجزائر بحدودها الحاضرة وحدة جغرافية، وإنما هي جزء من وحدة جغرافية كبرى، هي مجموع أقطار الشمال الأفريقي، فهذه الأقطار- وإن اتسعت آفاقها- مكوّنة تكوينًا جغرافيًا متّحد الخصائص الطبيعية، فالأطلس يربطها ربطًا محكمًا من مبدئه على تخوم ليبيا شرقًا إلى منقطعه في المحيط الأطلسى غربًا، والصحراء من ورائه خط