للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رأى زيري أن ينتبذ مكانًا قصيًا عن القيروان لأوائل قيام الدولة الفاطمية ورسوخ دعوتها وكثرة أنصارها واستقرارها بالمهدية العاصمة التي أسسها المهدي أول الخلفاء الفاطميين على ساحل تونس الجنوبي، وأن يعتصم بالعصبية الصنهاجية ضد قبائل زناتة أحد أعداء صنهاجة الألداء، فاختار جبل أشير إحدى قمم الأطلس على نحو مائتي ميل في جنوبي مدينة الجزائر وأسّس فيه مدينة أشير، وشرع في بنائها عام ٣٢٤ الذي جعلناه مبدأ لنشأة هذه الدولة، وقد أخذ زيري بدعوة الفاطميين ليزداد قوّة، فاستبحرت بذلك مدينته، وجمعت أسباب الحضارة كلها من علم وفن وصناعة وتجارة، وقصدها الناس من كل قطر، ورحل إليها التجّار وأصحاب الصنائع من الأندلس وغيرها، ولكن عمرها لم يطل، فقد زاحمتها (قلعة حماد) التي أسّسها حفيد زيري حماد بن بلقين بن زيري في جبل كيانة إحدى قمم الأطلس الشامخة شرقي جبل أشير، وجبل كيانة تتفرّع منه عدّة فروع ملاصقة، وفي بعضها منازل قبيلتي ومسقط رأسي، ولم تزل آثار قلعة حماد ماثلة إلى يومنا هذا، ولا يوجد لموقعها نظير في المناعة الطبيعية، وإن آثارها لتنطق بالقوة والاتساع مع وعورة المسالك المؤدّية إليها. وقد احتوت عاصمة حماد على كل ما احتوت عليه عاصمة جده زيري وهي مدينة أشير من حضارة وصناعة وفن، وأريت عليها في كل ذلك وفي ارتقاء العلوم الإسلامية بها وبكثرة المساجد وهجرة العلماء إليها حتى كوّنت مدرسة من المدارس الإسلامية بالشمال الإفريقي، ولكنها باجتذابها للعلماء وأصحاب الفنون والصناعات كانت سببًا في خراب العاصمة الصنهاجية الأولى (أشير)، وبقي عمرانها في ازدياد وحضارتها في اتساع واطراد، إلى أن طرقها الدهر بالغارة الهلالية المعروفة في أواسط المائة الخامسة، فاحتلّت قبائل بني هلال بن عامر المتدفقين من صعيد مصر على شمال إفريقيا البسائط المحيطة بها من الشمال والجنوب، وضايقوا قبائل البربر فيها، ومدينة القلعة متصلة من جنوبها بسهل واسع كان فيه لبني هلال مجالات، فأحسّ ملوك القلعة الحماديون بأنه لا قبل لهم بصدّ هذه القبائل العربية المغيرة، فعزموا على إنشاء عاصمة جديدة، فاختاروا موقع بجاية على خليج من أمنع خلجان البحر الأبيض، وهو موقع حصن فينيقي قديم يسمّى "صلداي"، واقع على مصبّ وادي الساحل في البحر، وتحيط به جبال شاهقة، هي شناخيب الأطلس الأصغر، فاختط بها الناصر أحد الملوك الحماديين، عام ٤٦٠ هجرية، مدينة ونقل إليها دار الملك فأصبحت عاصمة ثالثة للدولة الحمادية، وكانت أضخمهن وأعمرهن وأجمعهن لأسباب الحضارة، وزادت على سابقتيها بازدهار العلوم الإسلامية وكثرة من أخرجت من الأئمة في تلك العلوم، وكانت ممرًّا لكل قادم من الأندلس إلى الشرق حاجًّا أو طالبًا للعلم، وكانت تحتبس كل عالم أندلسي يردُ عليها سنتين أو ثلاثًا حتى يأخذوا عنه كل ما عنده من علم وأدب، وكما أصبحت بجاية دار علم أصبحت ميناءً تجارًيا وحربيًا لا نظير له في شمال افريقيا، وكان خليجها غاصًّا دائمًا بالسفن التجارية من الأندلس إلى الشام ومن ثغور الفرنجة على الضفة الأوربية، وبالأسطول الحربي الحمادي الذي أنشأ له الحماديون دور صناعة كانت مضرب المثل في زمنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>