للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كله، وهي على حالها من الاشكال، وشأن القدم أنه يعفي الآثار وينسي الأخبار، ويميت الادِّكار، ولكن مشكلاتنا غالبت الدهر كما غالبت عقولنا، فلم يستطع مر الزمن انساءها، ولم تستطع عقولنا حلها، وما زالت فرعيات الاحكام مشكلات قائمة بين علماء الدين في كل مطلع شمس تحدث مشكلات اجتماعية وسياسية جديدة تضاف إلى تلك المشكلات القديمة، ومنها ما يحتاج إلى الحل السريع الحاسم، فلا تجد المشكلات الجديدة حلًا من عقولهم وأفكارهم لاشتغالها بالمشكلات القديمة.

كأنّ عقولنا ألفت الاشكال فاطمأنت إليه فأصبحت لا تستطيع حل إشكال، وكأن الاشكال أصبح لنا عادة فأصبح هو القاعدة، وأصبح حله هو الشذوذ، والعقول كهذه الآلات المعروفة، إذا لم تتصرف أصابها الصدأ ثم الكلول ثم التلف.

وأضرب لنا مثلًا قضية اللحية وإعفاءها أو إحفاءها، وقضية الصوم والإفطار، وهل يناطان برؤية العين أو بالحساب، وأمثالًا أخرى كثيرة مما يتعاقب على حياتنا الدينية والدنيوية ويدخل في تصرفاتنا اليومية، وقد مر عليها بضعة عشر قرنًا وهي مشكلات قائمة تناولتها ملايين الأقلام بالكتابة، وملايين الألسنة بالكلام، وملايين العقول بالبحث، وانظر، فإذا كنا لم نستطع حل مشكلة الصوم والإفطار مثلًا- في أربعة عشر قرنًا ونحن وحدنا في الميدان لم يدخل معنا في الجدال يهودي ولا نصراني ولا وثني- فكم تقدر من القرون لحل مشاكلنا العصرية الدنيوية التي يجاذبنا حبلها اليهودي والنصراني، الخ. وأين تقديرك على اعتبار السرعة (بأربعة عشر قرنًا في اللحية)؟

أما الأمم الجارية مع الحياة فإنها تحل مشكلاتها القديمة، لتتفرغ للمشكلات الجديدة، ومن سلك هذا السبيل لم تبقَ له مشكلة، لأن المشكلات إذا وجدت العقول متهيئة لحلها قادرة عليه، متفرغة له- لم تعد مشكلة، وما صير قضايا العروبة مشكلات إلّا العرب وعقول العرب، فهم فيها بين حالات ثلاث: إما أن يسكتوا فتبقى إشكالًا، وإما أن يعتمدوا في حلها على غيرهم فيزيدها تعقيدًا أو يحلها لصالحه لا لصالحهم، وإما أن يعالجوها بأنفسهم ولكن بنيات مدخولة وضمائر مريضة وعقول ناقصة وغايات متباينة وإرادات مستعبدة، ومقاصد تافهة، فلا يكون العلاج علاجًا، وإنما يكون بلاء مضاعفًا.

ومشكلات العروبة صار لها هذا الإهمال الذي وصفناه لقاحًا، فصيّرها ولودًا، فكل مشكلة منها تلد مشاكل، ومن شاء أن يردّ كل مشكلة منها إلى أصلها، وينسب كل بنت إلى أمها، تهيأ له ذلك بأيسر تناول.

كل شؤوننا مشاكل، وكل شعب من شعوبنا مشكلة في نفسه، ومشكلة مع جاره وكل حكومة من حكوماتنا مشكلة في نفسها، ومشكلة مع جيرانها، وكل رئيس حكومة مشكلة،

<<  <  ج: ص:  >  >>