للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم يَحْكِ الإسلام في عصوره المتوسطة والمتأخرة ولا تاريخ الثورات عن قتال كانت فيه ملامح من الجهاد الديني المؤيَّد بروح الله وأثارة من آثاره مثل ما شهد من الثورة الجزائرية، ولا عجب فالاستعمار الفرنسي في الجزائر حارب- أول ما حارب- الإسلام ومقوّماته، فكانت الثورة على الاستعمار تحمل معنى الانتصار للدين ولمساجده التي حطمها المستعمرون، وجرّدوها من معاني الإسلام وعطلوها، ومعنى النكاية في رجال الدين الذين راضهم الاستعمار على السمع والطاعة له حتى أصبحوا جواسيس له، وتنكروا لقومهم وجامعتهم، وخانوا أمانة الإسلام، ومعنى الانتصار لِأَوْقافه التي تقوم عليها شعائر الإسلام، وتتحقق مآثره وخصائصه، وتتجلى بها عدالته وإحسانه.

هذا ما قامت به الجزائر وحدها في قسم الجهاد بالنفس، وهو القسم الذي عُلِمَتْ أخبارُه بالتفصيل، واستفاضت في العالمين إلى حد التواتر الذي لا يُماري فيه أحد، وبه دخلت الجزائر التاريخ من بابِه وسجلت اسمها في الخالدين، وأصبح اسمها مقرونًا بالإعجاب والإكبار، وذِكْرُ أبنائها الأبطال مقرونًا بالمدح والثناء، وأصبحت بطولتهم وشجاعتهم مضرب الأمثال وحديث الركبان، بعد أن كان اسمها في التاريخ الحديث خاملًا مغمورًا عند كثير من الشعوب التي تجمعها به كلمة الإسلام، ولقد كنت بباكستان لسِتِّ سنوات خلت، وجُلْتُ في عواصمها متحدثًا عن الجزائر ونهضتها العلمية والسياسية، فكان جمهور الحاضرين لا يعرفون اسم الجزائر فضلًا عن أوضاعها وأصالة الإسلام فيها والعروبة، وقرّاء الانجليزية منهم يعرفون عن طريق كتب الجغرافيا أن في افريقيا بلدًا اسمه "الْجِيرْيَا"، ويلتبس عليهم باسم "نيجيريا"، ويسبق إلى ألسنتهم اسم نيجيريا لخفته في النطق، فكنتُ ألقى العَنَتَ في تفهيمهم أن الجزائر وطن عربي إسلامي واسع مشهور، وأنه يشغل الوسط من شمال افريقيا، وأن جميع سكّانه مسلمون، وأنه فُتح من عهد الصحابة ... الخ. ولما قامت الثورة وطارت أخبارها كل مطار وسافرتُ إلى باكستان داعيًا لها وجدتُ جميع الألسنة الأعجمية قد ارتاضت على النطق باسم الجزائر العربية.

وأما النوع الثاني من نوعَي الجهاد المادي، وهو الجهاد بالمال، وهو الدعامة المتينة التي تقوم عليها الثورات، فقد قام الجزائريون وحدهم بما تتطلبه الثورة من أموال باهظة، والثائرون- إلى الآن- إنما يعتمدون على الأموال الجزائرية، وإذا كانت فرنسا تنفق على جيشها العامل في الجزائر تلك المبالغ الخيالية التي لا تقلّ عن مليار فرنك يوميًا، وقد تزيد إلى مليار ونصف مليار من الفرنكات حتى أثقلت ميزانيتها، ووقفت بماليتها على حافّة الإفلاس لولا إعانة أمريكا التي تكشف عن السوءات، وعرف عنها العالم أنها حاضنة الاستعمار ومُرَمِّمة جداره، وطبيبة أنيابه وأظفاره؛ إذا كانت حالة فرنسا هي تلك، فإن الجزائر المجاهدة تعتمد على الله وعلى نفسها وعلى ما أبقاه لها الاستعمار من فتات، لأنها

<<  <  ج: ص:  >  >>