للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن هذه الأمة العربية هي هدف الاستعمار قبل كل شعوب الأرض، فهو لذلك لا يزال يعمل على تفريق أجزائها وتطفيف جزائها، وقد بلغ منها ما أراد بكيده وسحره حتى ينسيها ماضيها وأمجادها، فمن فروع التعبئة العامة للوقوف في وجهه والدفع في نحره أن نصرف هذا الجيل الذي فتنه الغرب بقوّته عن طريق هذه الفتنة، وأن نبيّن له ما يجهله من أن هذا الشرق مطلع الأنوار ومعدن الأسرار، وأن نعالجه من هذا الكسل العقلي الذي رماه بالجهل والجمود، وأنه إن أراد أن يبني العلم والبيان والقوة على أسسها الصحيحة فلْيَتَلَمَّسْها من معادنها في أسلافه ولا يأخذها بالتقليد للغرب والاستعارة من الغرب، وأن نهزه بِمِثْل أقوال شوقي في هذا الباب وما أكثر أقواله في ذلك، فهو الذي يخاطب مصطفى كامل بقوله:

أتذكر قبل هذا الجيل جيلًا ... سهرنا عن معلمهم وناما؟

مِهارُ الحق بغّضنا إليهم ... شكيم القيصرية واللجاما

لواؤك كان يسقيهم بجام ... وكان الشعر بين يدي جاما

أيها الأخوان:

ليت شعري، هل كان شوقي يدري حين نظم هذا البيت:

هل كلام الأنام في الشمس إلا ... أنها الشمس، ليس فيها كلام

أنه سيصبح أحق به ممن قيلت فيه؟ فقد وصل شوقي بشعره حينما اقتحم به جميع الميادين إلى مرتبة من مراتب الخلد لا يستطيع وصفها إلا هو بمثل هذا البيت.

ولقد دأب شوقي بتقليد المتنبي في أول أمره فجاراه، وما كبا وما قصَّر، ثم شآه في التشبيب الصادق والغزل الرقيق، ثم طاوله فطال عليه في وصف الآثار الباقية عن الحضارات الداثرة، وفي التغني بالأمجاد الغابرة لبني جنسه أو بني وطنه أو بني دينه، على حين كانت عبقرية المتنبي لا تتجاوز به مدح شخص يجود، أو شجاعة في وصف حروب وانتصارات قد يكون الغناء فيها لغير الممدوح، ولا تبرز العبقرية إلا في الحِكَم التي سجَّلها والأمثال التي سيّرها، أما الوصف الذي تتبارى فيه قرائح الشعراء، وتتجارى سوابقهم فيه فليس للمتنبي فيه كبير قيمة إذا استثنينا قصيدته في شِعْب بوّان وقصيدتيه في وصف الحمى وفي وصف الأسد وفي قطع قليلة من شعره.

ورأيي في شوقي معروف في المشرق والمغرب بين خلصائي من الأدباء وخلطائي من المتأدبين، فلم أزل- منذ كان لي رأي في الأدب- أغالي بقيمة شوقي في الشعراء السابقين واللاحقين، وربّما شاب هذا الرأي مني شيء من الغلو في مقامات الجدل والمفاضلة بين شعراء العربية، وما كنت أتهم نفسي بعصبية لشوقي، ولا كان الناس يتهموني بتحيّز، لأنني كنت قوّامًا على شعر شوقي أستحضره كله وأستظهر جُلّه، حتى ليصدق عليّ

<<  <  ج: ص:  >  >>