للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي تنطوي عليه أحناؤك وهذا الأسى المبرح الذي أعلم أنك تقاسيه. فكنت كمن يستجلي المعنى الدقيق من اللفظ المعقّد، وإن بين التعقيد ونفوس الشعراء "الأتقياء" نسباً وثيقاً. ويا لله للنفوس الشاعرة التقية وما تلاقيه من عناء ممض يتقاضاها الشعر إطلاقاً، فيتقاضاها التقى تقييداً ... لها الله فماذا تفعل!

أتظن أننا جاهلون بهذه المنازع العجيبة التي تنزعها في شعرك وبمناشئها من نفسك، فاحمد الله على أن في قومك من يعرفها ويتذوقها ويطرب لها ...

ما لهذه النفس الكبيرة في هذا الهيكل الصغير يهفو بها الشعر في مضطربه الواسع فلا يبلغ مداه حتى يقول:

خلا القلب من حب العباد وبغضهم ... وأصبح بيتاً للذي حرم البيتا

ويقول: وتبت يا رب تبت

ويقول اليوم:

ولولا رجاء الذي ... إليه أنا زالف

إنها، وأبيك، لنزوة الشعر تعتلج في الفؤاد بنزعة التقى.

طالما سمعت منك كلمة "اليأس"، وبودّي أن لا أسمعها منك مرة أخرى لأنني أعدها غميزة في شاعريتك. ولولا شذوذ نعرفه في نفوس الشعراء كأنه من معاني كمالهم لما صدّقنا باجتماع اليأس والشعر، وكيف ييأس الشاعر وهو ملك مملكة الآمال وسلطان جو الخيال. فإن كان تقياً رجع من "رجاء الله" إلى ما لا يحدّ له أمد. فكيف تيأس نفس الشاعر لولا ذلك الشذوذ؟

لقد قال أولكم:

حرك مناك إذا اغتـ ... ـمت فإنهن مراوح

وما قالها لغيره إلا بعد أن جرّبها في نفسه ... فلا تيأس يابني ولا تكذب إمامك الذي يقول: خلق الشاعر سمحاً طرباً.

قرأت زفراتك هذه الساعة في الشهاب وأنا طريح الفراش، أعالج زكاماً مستعصياً ونزلة شعبية، وسعالاً مزمناً وأولاداً يطلبون القوت أربع مرات في اليوم وتلاميذ يطلبون الدرس سبع مرات في اليوم والليلة فقلت: وهذه أخرى. إن ولدنا هذا لذو حق. وكتبت لك هذه الكلمات كما يكتب الأب الشفيق إلى ولده الرفيق. وعسى أن يكون فيها ترويح لخاطرك.

محمد البشير الإبراهيمي

<<  <  ج: ص:  >  >>