للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذواتهم وإنما يعملون للغتهم ودينهم ومصلحة أمّتهم، وان من يحتسب في سبيل الإسلام والعربية حتى دخول السجن لحقيق بأن تمتلئ القلوب المتعلقة بالإسلام والعربية بلجلاله وتعظيمه وتهبُّ النفوس المتشبّعة بالإسلام والعربية لنصرته وتأييده وكذلك كان.

وقد كان الناس في القطر الجزائري قبل هذه الحادثة في جنب جمعية العلماء فرقًا منهم المنتصر الغالي ومنهم المحب المقتصد، ومنهم القُعْدي المذبذب ومنهم المبغض المسرف، وكل ذلك مبني على تفاوتهم في إدراك حقيقتها وتفهّم مقاصدها، فجاءت هذه الحادثة فكانت سببًا في تلاقي أطراف هذه الفرق وإجماعهم على محبّتها والاقتناع بحقيقة مبادئها. وان كثيرًا من الغالين في بغضها والتشنيع عليها ليقولون: نشهد إنها لمظلومة، وتراهم أكثر ميلًا إليها وعطفًا عليها وإكبارًا لرجالها مما كانوا عليه من قبل.

ولقد قال لي قائل ذكي ما معناه: ان محاكاة القدر لا تكون قدرًا من جميع جهاتها، فلأمرٍ ما كان القتيل كحولا ولم يكن رجلًا سياسيًا، ولأمرٍ ما كان المتهم العقبي ولم يكن رجلًا آخر، انهم يقولون انهما رجلا دين، ولكن الدين لا يقتل الدين (ونطق بهما بلفظ الاسم) وما قالوا ذلك إلا ليبنوا عليه أن رجال الإسلام يصطرعون ونحن لا نؤمن بالمقارنة ولا نؤمن بهذه المقدمات، وأحرى أن لا نؤمن بما يبنون عليها من النتائج ...

فقلت له: افهم كما شئت فما أنا على افهام الناس بمسيطر.

وقال لي ظريف آخر: ان الجماعة كانوا يرموننا بأننا نتّخذ الدين آلة لأغراضنا ويعدّون ذلك بابًا من أبواب سفاهتنا، وها هم اليوم يقلّدوننا في اتخاذ الدين آلة للأغراض ...

ولعمري إن أسخف أنواع التقليد ما كان في أمر وهمي. فكان جوابي له عين جوابي للأول.

هذه الآثار هي إحدى بركات هذه الحادثة على جمعية العلماء، فما أبرك هذه الحادثة إذًا على جمعية العلماء ...

ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار، ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار، وكان يوم اعتقاله يومًا اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يومًا اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور، وأقوى ما في هذا الإجماع المنقطع النظير انه كان بسائق وجداني جمع بين من يعرف الأستاذ معرفة عيان وبين من يعرفه معرفة سماع وبين من لم يعرفه إلا من هذه الحادثة. كما جمع بين المسلم والنصراني واليهودي، وان أمرًا تجمع عليه هذه الطوائف المتباينة من الناس لأمر عظيم، وان من يقرأ مئات البرقيات ورسائل التهنئة ويتأمّل إطباقها على معنى واحد- وهى من مصادر متباينة- يعدم أنها من وضع إلهي فوق قوى البشر.

<<  <  ج: ص:  >  >>