للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعتقد المسلمون كلّهم أن سلفهم كانوا أكمل إيمانًا من خلفهم وهذا صحيح، ولكنهم لا يبحثون عن علة كمال الإيمان في السلف حتى لكأنهم يعتقدون أن ذلك بوضع إلهي وتخصيص رباني لا يد للكسب فيه، وهذا خطأ فاحش وجهل فاضح.

وما دام الكلام في الإيمان، فهاته وانظر كيف فهمه السلف ومن أي معين استقوا فهمه ومن أي أفق استجلوا حقائقه. ثم انظر كيف فهمه الخلف ومن أين سقطت عليهم هذه الفهوم السخيفة. ثم أرجع كل معلول إلى علته بلا إجهاد للذهن ولا إنضاء للقريحة.

إن السلف تذرّعوا لفهم القرآن ذريعتين: الذوق العربي الصحيح، والسنة النبوية الصحيحة.

وقد كانوا يؤمنون بأنه كل لا يتجزأ وأن بعضه يفسّر بعضه وقد استعرضوه بعد فهمه بتلك الذرائع، فوجدوه يُعرِّف الإيمان بالصفات اللازمة والتي يتكون من مجموعها، فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآية ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}. ويقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى آخرها. ويقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى آخرها. ويقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) إلى آخرها. ويقول غيرها من الآيات الجامعة لشعب الإيمان وخصاله وصفاته الذاتية، ثم وجدوه لا يذكر الإيمان في المعارض المختلفة إلا مقرونًا بالعمل الصالح ففهموا من القرآن ما هو الإيمان وما هي الأعمال الصالحة، فآمنوا وعملوا الصالحات فكان إيمانهم أكمل إيمان بالعمل والكسب لا بشيء آخر من الخوارق والاختصاصات. وعلى هذا النحو فهموا العبادة وتوحيد الله وكمالاته المطلقة والرسل ووظائفهم والملائكة الخ.

أما الخلف فقد عدلوا عن هذا كله منذ صاروا يفهمون الإيمان من القواعد التعليمية وفقدوا الذوق والاسترشاد بالسنة.

إن هذه القواعد الجافة التي لا صلة بينها وبين النفس إنما تنفع في الصناعات الدنيوية، أما في الدين فإنها لا تغني غناء وقد أفسدته منذ أصارها الناس عمدة في فهمه حتى ضعف إيمانهم وضعفت تبعًا له إرادتهم وأخلاقهم، وكيف يفلح من يعدل في تفهم الإيمان عن الآيات المتقدمة إلى قولهم إن الإيمان هو التصديق وإن النطق شرط أو شطر فيه وإن النسبة بين الإيمان والإسلام كذا إلى آخر القائمة؟ وكيف يكون مؤمنًا (حقًا) من يبني إيمانه على هذا الجرف الهاري؟

إن هذا موضوع واسع الجنبات وهو يتصل بباب أمراض المسلمين وأسبابها ولا تتسع هذه الكلمة لبعض القول فيه فكيف باستيعابه.

<<  <  ج: ص:  >  >>