للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشهيرة الفاصلة حتى تنتهي إلى فتح صقلية ومواقع الحروب الصليبية وفتح القسطنطينية، وهلم ما يخصنا معشر الأفارقة كبناء القيروان واستواء طارق على الجبل، وهلم ما تقتضيه المناسبات في بعض الأوقات كفتح خيبر ودخول عمر لبيت المقدس. وتعال إلى القوّاد والفاتحين والأجواد والعلماء والحكماء والفلاسفة والشعراء- ولا تعد من الدر إلا كباره- تجد ما زخرفه التاريخ وفاضت به العصور. ومع هذه المفاخر فقلّ أن تجد قطرًا إسلاميًا سنّ أهله سنّة صالحة في إحياء هذه الذكريات وإحياء الأمّة بها، إلا في القليل المشوّه الذي لا ينقع غلة ولا يصيب مرمى.

إن غفلتنا عن إحياء ذكريات أمجادنا التاريخية هي التي أزهقت في الأمم الإسلامية روح التأسّي فأفقرتها من الرجال وجعلت تاريخها الحديث خلوًا من المثل العليا، حتى اندسّ هذا العرق الخبيث في آدابنا فترانا إذا التمسنا مثلًا في الجود، طوينا تاريخ الإسلام كله كأنه صفحة مغسولة، وجئنا من العصر الجاهلي بحاتم وقل مثل ذلك في عنترة والسموأل. فإذا قصرنا الخطو وقاربنا النجعة، وقفنا عند العصر الأول للإسلام. فهل خلت العصور التي بعدهم من مثل كاملة ومن مفاخر خالدة؟ لا. فقد تأسّى عصر بعصر وجيل بجيل، فجاءت عصور زاهرة وأجيال عامرة. فلما جهل التاريخ وانقطعت العلائق الواصلة بين عصوره، ضعفت روح التأسّي ثم تلاشت، وصرنا إلى هذا الفقر الشائن في المثل، وهذا الخواء المزري في التاريخ.

وقد زادتنا أضاليل الغاشين إمعانًا في الغفلة وإغراقًا في الركود. ففقهاء هذه العصور الجرداء يعدّون التاريخ علمًا لا ينفع وجهالة لا تضرّ، والأجانب يعيّروننا بأننا أمّة تعيش في الماضي ويغشّون سفهاءنا في معرض التنصح بأمثال هذه الكلمات ليًا بألسنتهم وتزهيدًا في هذا الماضي زيادة على زهدنا فيه. وهم يعلمون أننا نعيش بلا حاضر. ويوجسون خيفة من أن يلمّ بنا طيف من ذلك الماضي الزاهر فنبني عليه حاضرًا من جنسه أكمل منه.

أَلا إنهم- من إفكهم- ليقولون: دعوا ماضيكم، فهل تركوا هم ماضيهم؟ إننا نراهم أحرص الناس على الاعتداد به والاستمداد منه والامتداد معه إلى عصور الخرافات والأساطير.

وما لنا وللغاش والناصح! إن لنا لماضيًا عبقريًا حسدتنا عليه الأمم التوالي، بعد أن جرضت به الأمم الخوالي. فمن مصلحتنا وحدنا أن نحيي ذكرياته في نفوسنا وأن نستمد منه قوة لأرواحنا وأن نربّي ناشئتنا على احتذاء مثله وعبقرياته. وإن إقامة الاحتفالات لتلك البواعث لطريق قاصد إلى ما نريد من ذلك.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>