للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا كله في الشر على عمومه ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيئ أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان.

هذه الثلاثة هي: الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد.

والغاسق: الليل المظلم والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة.

ووقب: دخل في الوقب وهو النقرة في الشيء.

والنفاثات: السواحر ينفثن الريق، واللفظ جمع نفاثة كثيرة النفث.

والعقد: جمع عقدة بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها. والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين.

فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفي عمله أو يخفى أثره يجلّ خطبه ولعظم خطره، فيعسر التوقّي منه والاحتياط له، لأنك تتقي ما يظهر ويستعلن، لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص.

أما نكتة الترتيب فإن الليل ليس شرًا في نفسه ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس، قوية في الاعتبار، مسبّبة للحكم على أحدهما بحكم الآخر.

بخلاف النفاثات والحساد فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتيًّا لهما، ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي، كما أن بين الإثنين تفاوتا في ذاتية الشر وقوّته وعسر التوقِّي منه. فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه، بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير، فشره أشد والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترقٍّ من الأخف إلى الأشد.

ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهرًا بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد فإن الجميع ظلام، ظلام الزمن وظلام السحر وظلام الحسد.

وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد للمراد: الأول أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظّلم وتكاثفها، فكأن بعض أجزائها يدخل بعضًا، والظلام يبدأ خفيفًا مشوبًا بإسفار من الشفق أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويحلولك حتى يغطّي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب. والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني،

<<  <  ج: ص:  >  >>