للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالنفث المذكور في الآية إن أثَّر فإنما يؤثر بالقوّة النفسية التي من ورائه، والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلّا نفث الشر، لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق وإنما تنفث السم، وكالعدو يلقاك بطعن الأَسَل، لا بطعم العسل إذ كان ذلك من طبيعة العداوة.

هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة. وأما النفوس الخيرة الطيبة كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير. وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه، يبدأ برأسه ووجهه يفعل ذلك ثلاث مرات، فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله، ثم قالت في تمامه: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك، وفي رواية: كان يقرأ بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها، وفي رواية مسلم عنها أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله.

فهذه الأحاديث- وهي ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المعوذات وينفث حين القراءة نفث الخير قطعًا. وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها، وأن النفث إيصال للقوّة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيرًا وشرًا، ولولاهما لما كان النفث إلّا من فعل السحرة.

والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءًا من روحانيتها على نفس أخرى أو على بدن، وكأن تحرلك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية واستدعاء لها، حتى تتصل بالريق الذي ينفث كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادي. وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثًا مجردًا بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة.

ومن الشواهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم من حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا (تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل) ثم رفعها وقال: بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى بها سقيمنا بإذن ربنا.

(بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع):

إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة، فلا يستقل بتفسيره إلّا الزمن، وكذلك كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - المبيّن له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع، لم تفهم أسرارها ومغازيها إلّا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في

<<  <  ج: ص:  >  >>