للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واللغة العربية هي التي أفضلت على علماء الإسلام بكنوزها ودقائقها وأسرارها، وأمدّتهم بتلك الثروة الهائلة من المصطلحات العلمية والفنية التي تعجز أية لغة من لغات العالم عن إحضارها بدون استعانة واستعارة. فبحثوا في كل علم وبحثوا في كل فن وملأوا الدنيا مؤلفات ودواوين، ومن عرف كتاب أبي حنيفة الدينوري في النبات وكتاب أبي عبيدة في الخيل وكتاب الهمداني في تخطيط جزيرة العرب وكتاب الجاحظ في الحيوان وكتب الأَئِمَّة في الطب والنجوم والإبل، رأى العجب العجاب من اتّساع هذه اللغة وغزارة مادتها، وعلم مقدار أفضالها على الأمة العربية. كما ان من يقرأ شعر الشعراء النفسيين من الفرس بهذه اللغة وشعر الشعراء الوصافين من الأندلس يتجلى له أي إِفضال أفضلته العربية على تلك القرائح الوقّادة التي وجدت في العربية فيضًا لا ينقطع مدده، وأضافته إلى فيض الاستعداد. وما أمتن الإنتاج الأدبي إذا كان يصدر عن اتساع في اللغة واتساع في الخيال.

أيها الإخوان:

إن النهضة العربية الحاضرة في الشرق مفتقرة إلى كثير من المصطلحات العلمية والصناعية. وما زلنا نقرأ من سنوات عن اهتمام قادة النهضة بهذه المشكلة ونقرأ اختلافًا في الوجهة، وهل الأصلح البحث عن مصطلحات عربية أصيلة، أو استعارة هذه المصطلحات من لغات العلم الأجنبية، وان غاية ما استنجد به أصحاب الرأي الأول المعاجم اللغوية، وأعتقد أنه لو كانت الكتب العلمية والفنية التي كتبها أسلافنا موجودة بين أيدينا ولم تغلها غواثل الدهر لوجدنا فيها من هذه المصطلحات ما يفي بحاجتنا أو يقارب، ولكنها- ولا للأسف- ضاعت، وضاعت علينا بضياعها ثروة لا تقوم بمال.

هذا كتاب الحيوان لأبي حنيفة شدّت في طلبه الرحال من عشرات السنين وأنفقت على تحصيله بدر المال، وتبارى هواة الكتب في طلبه في جميع أقطار الأرض، فلم يعثر له على أثر. وان من يقرأ ما ينقله عنه ابن سيده في كتاب المخصّص يسترخص في سبيله كل غال ويستسهل كل صعب.

أيها الإخوان: هذا عرض بسيط لبعض ما للغتنا من فضل على العلم والمدنية. وان هذا المبحث في حد ذاته موضوع طريف يحتاج إلى بحث عميق ودراسة مستفيضة، ويتطلب جهدًا قويًا ووقتًا متّسعًا. ولو أن باحثًا عربيًا يساعده وقته وحاله على استقراء هذا الموضوع لكتب فيه المجلدات، ولبثّ في ناشئتنا روحًا جديدة من الحماس للغتهم والتعلّق بها والكدّ في تحصيلها والتعاظم بجمالها، ولكان ذلك مقاومًا لروح التزهيد الخبيثة التي لابست عقولهم.

أيها الإخوان: إن المستعربين من علماء المشرقيات فريقان متّفقان في الاعتقاد بجمال هذه اللغة والاعتراف بمزاياها على العلم والمدنية، مختلفا الدواعي والبواعث في معاملتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>