للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آلاف الجزائريين، و"كان الإبراهيمي على رأس القائمة" (٢٠)، الذي سيق إلى السجن العسكري بمدينة الجزائر، حيث وضِع في زنزانة انفرادية تحت الأرض لمدة سبعين يومًا، لا يخرج منها إلا ربع ساعة في اليوم، ثم نُقل إلى قسنطينة ليوضع في زنزانة أخرى- في انتظار محاكمته- حتى ساءت حالته الصحية، فكان ينقل منها إلى المستشفى العسكري ويعاد إليها طيلة أحد عشر شهرًا، مما أدى إلى تدهور صحته، وإصابته بأمراض بقي يعاني منها إلى أن توفاه الله.

ومن أعمال فرنسا عقب حوادث ٨ ماي ١٩٤٥ سَنُّ قانون لا يوجد فيما عرف الناس من قوانين أكثر قسوة ووحشية منه، والغريب العجيب أن المؤرخين وشهود تلك الحوادث أهملوا الإشارة إلى هذا القانون رغم بشاعته، ولم يشِر إليه ويندد به- فيما نعلم- إلا الإمام الإبراهيمي، الذي ذكر أن فرنسا "سنَّتْ قانونًا مَتْنُه من وحي الرومان، وشرْحُه من فقه الإسبان يقضي بمنع أيَامَى القتلى من التزوج، وبعدم قسم المواريث المتخلفة عنهم، وبعدم السماح لأهل البر والإحسان بتبني يتاماهم" (٢١).

أُعلن العفو العام! وأُفرِج عن المساجين، فخرج الإمام الإبراهيمي من السجن يوم ١٦ مارس ١٩٤٦، وقبل أن يستعيد جزءًا من قوته، ويسترد شيئًا من صحته عاود النشاط بعزيمة أمضى، وإرادة أقوى، فملأ بنشاطه المكان والزمان، وجاب الجزائر كلها: سهلها وحَزْنَها، تلَّها وصحراءها، حواضرها وبواديها، يؤسس المدارس، ويشيد المساجد، ويفتح النوادي، ويصلح بين الناس، ويؤلف بين القلوب، ويشحذ النفوس، وبفضل ذلك النشاط الدائب والعمل الهادف صارت جمعية العلماء تمثل ضمير الأمة، وحافظة شخصيتها، وحامية كيانها، ومُحْيِيَةَ مقوماتها، دمالى هذه المعاني أشار الشاعر مفدي زكريا- أحد قادة حزب الشعب الجزائري-:

جمعية العلماء المسلمين ومَنْ ... للمسلمين سواكِ اليوم منشود؟

خاب الرجآ في سواكِ اليوم، فاضطلعي ... بالعبء، مُذْ فرَّ دجال ورعديد

سيروا، ولا تهنوا، فالشعب يرقبكم ... وجاهدوا، فَلِواءُ النصر معقود

أمانة الشعب، قد شُدَّت بعاتقكم ... فما لغيركمُ، تُلقَى المقاليد (٢٢)

وأصبح الإمام الإبراهيمي زعيمًا لهذه الأمة، تُلقي السمع لقوله، وتسترشد برأيه، وتهتدي- فيما تأتي وتترك- بفكره، وتنزل في قضاياها على حُكمِه، وتتخذه أسوة حسنة لها


٢٠) عبد الرحمن بن العقون: الإبراهيمي فقيد العروبة والإسلام، مجلة الثقافة، عدد ٨٧، [ص:٤٠٦].
٢١) انظر مقال "وَيْحَهم ... أهي حملة حربية؟ " في الجزء الثالث من هذه الآثار، والمقصود بالتبني هنا هو الكفالة.
٢٢) مفدي زكريا: ديوان اللهب المقدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ١٩٨٣، [ص:٢٦٨]، والقصيدة بتاريخ ٢٥ أكتوبر ١٩٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>