للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحق أن الضب حيوان عربي جزري، ولا تقل إنه صحراوي وأن الصحراء ليست خاصة بالعرب، فإن هذه الصحراء التي هي آية من آيات الله. في أرضه، أو هي باب الفلسفة من هذا الكتاب الأرضي لم يعمرها الله بأمة تشرّبت معانيها، وتغلغلت في دقائقها، ولاءمت روحُها روحَها مثل الأمة العربية، وسل التاريخ ينبئك، فهو لم يعرف أمة خلعت عليها الصحراء فطرتها وأفرغت عليها إفراغًا سابغًا غير الأمة العربية.

ومن ههنا جاشت نفوس العرب وتفتقت قرائحهم عن روائع الفلسفة الوصفية للصحراء وأرضها وسمائها وليلها ونهارها وأغوارها وأنجادها وبراريها القاحلة وشجراتها ومعايشها وقيظها وصرّها وحيوانها ونباتها، وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف النجوم حتى قربتها تشبيهاتهم إلى الإدراك البشري، واعتبر ما قالوه في سهيل والجوزاء والسماكين الأعزل والرامح والثريا والخضيب والدبران والنسرين الواقع والطائر على كثرة النجوم وكثرة ما قالوه فيها، وإذا كانت النجوم لا تحصى عدًا، فقل ذلك فيما قالته العرب فيها. ومن بدائع تشبيهاتهم في النجوم أخذ المعري تلك المنازع الغريبة وتلك النظرات الفلسفية البعيدة الغور المنبثة في لزومياته، وهي باب على حدة من فلسفته الكونية وما نبع ذلك الزلال ونبغ ذلك السحر الحلال إلا مما تركه العرب من تشبيهاتهم لها وتخيلاتهم فيها. وانظر أوصافهم البديعة لظلمة الليل وروعته وأثرها في نفوسهم وقارن ذلك بوصفهم للنجوم ينكشف لك بعض السر من تلك النفوس وارتباطها بكونها وامتزاجها به، ولا أبعد إذا قلت إنه ليس للأمم مجتمعة ما للعرب في هذا الباب.

وليس لأمة من الأمم ما لهم في وصف الحيوانات الضارية، وأن أمم الحضارة على وفرة أدواتها لم تدرس الضواري إلا بعد أن دجّنتها، وفاتهم أن التدجين يذهب بكثير من الخصائص الطبيعية لها فيفوت بذلك على الدارس كثير من النتائج، واعتبر ذلك بِتدجيننا- ونحن بشر- كيف اغتال خصائصنا ومقوّماتنا، ومسخ معنوياتنا حتى أصبحنا أحط من بعض أنواع الحيوان. أما العرب فخالطوا الضواري في أغيالها واقتحموا مآسد خفان والثرية وترج وغيرها وذللت أرضها أقدامهم، ومنهم من عايش الضواري حتى ألفها وألفته وجمع بينهما عالم كعالم المثال عند الصوفية، فلطفت في السبع سورة السبعية وشرتها وامتدت في العربي الميزة الحيوانية، وتقاربت الغرائز في الجو الحيواني الوسط فصدق الوصف وحق التصوير. ولو لم يكن العربي أميًا وكان ممن يدرس الأشياء على المناهج العلمية، لأتى العالم بالمعجزات.

وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف الحشرات والزواحف والإلمام بطبائعها ووجوه تصرفاتها وسعيها في معائشها وتناسلها ودراسة ما بينها من امتزاج وتنافر، وصف عن عيان ودراسة في الجو الطبيعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>