للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على محبته، فإذا أحبّوه أطاعوه وامتثلوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل من توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكّن من حملهم على الاستقامة وطبعهم على الخير والفضيلة. فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة- طريقة الترغيب- حبّب إليهم المدرسة والقراءة والعلم. وإن الصغير لا يفلح في التربية ولا ينجح في القراءة إلا إذا أحبّ معلّمه كحبّه لأبويه أو أعظم، وأحبّ المدرسة كحبّه لبيت أبويه أو أشدّ. وكثيرًا ما رأينا الصغار الذين يربيهم معلّموهم على هذه الطريقة الحكيمة يباهي أحدهم تربه بقسمه وبمعلّمه، ويباهي زميله في مدرسة أخرى بمدرسته، كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت. وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم.

حدّثني الأمير عبد القادر بن الأمير علي الجزائري- رحمهما الله- بدمشق، قال: كانت لنا بنت في الخامسة من عمرها، فقدّمناها إلى مدرسة من نوع رياض الأطفال بمدينة "بروسه" من الأناضول (وكانوا مقيمين بها في الحرب العالمية الأولى). قال: فكانت دايتها لا تذهب بها إلا في حالة من الحرد والصراخ تخشى معها على حياتها، وكانت الداية تذهب إلى المدرسة بها وتجيء مرّات في اليوم، قال: وما هي إلا أيام حتى جذبتها المعلمة بلطف مدخلها إلى نفسها، فأصبحت تفعل حين تريدها الداية على الرواح أكثر مما كانت تفعل حين تريدها على الغدو من البكاء والإعوال، وزاد بها الحال حتى اضطرّت المعلمة إلى اصطحابها معها إلى بيتها فلا تأتينا بها إلا نائمة، فإذا أفاقت أنكرت أمها وفراشها وذعرت حتى لنضطر أحيانًا إلى إرجاعها إلى المعلمة ليلًا. قال: وكان من أثر تلك المعاملة أن حذقت البنت كل ما لقنته في الروضة، وانبنى مستقبلها على ماض متين.

ليحذر المعلّمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العتيقة التي كانت شائعة بين معلّمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت هذا الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة. إن القسوة والإرهاب والعنف تحمل الأطفال على الكذب والنفاق، وتغرس فيهم الجبن والخوف، وتُبغض إليهم القراءة والعلم. وكل ذلك معدود في جنايات المعلّمين الجاهلين بأصول التربية.

وليدرس المعلم ميول الأطفال بالاختلاط بهم، وليكن بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم عطفه، ويوزّع بشاشته ويزرع بينهم نصائحه، ويردّ الناد منهم عن المحجة برفق. إن درس الميول يمكّن المعلم من إصلاح الفاسد منها، ومن غرس أضدادها من الفضائل في نفوسهم. وإن المعلم لا يستطيع أن يربّي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا ... ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان هو صالحًا، لأنهم يأخذون منه بالقدوة أكثر مما يأخذون منه بالتلقين.

<<  <  ج: ص:  >  >>