مناحة مأتم، فيتفجعون للمصيبة، ويبكون على الفقيد ولو غبرت عليه السنون، ويثيرون أشجان السامعين بتهويل المصيبة فيه، وتجد الشعريات سبيلًا إلى ألسنتهم وأقلامهم ومنفذًا إلى نفوسهم وعواطفهم فتفسد على الحكمة أمرها. وكل فجيعة لم يمسحها السلو، تحكم فيها الغلو، لأن السلو يفرغ المجال للاتعاظ والتأمل، والغلو يفتح الباب للانتحال والتعمل. ولا أكذّب الواقع فأنا أجد في نفسي هذا الميل كلما قمت متكلمًا في حفل من هذه الذكريات، وأجدني في حالة من التأثّر أتمثل فيها الفجيعة حاضرة فأقول في البكاء والاستبكاء أكثر مما أقول في التأسي والاعتبار. وإني أتخيّل أن منشأ ذلك في نفسي حالة واقعية وهي الفراغ الذي يتركه في الصفوف كل راحل من رجالنا وأن كل من خلا موضعه في الميدان منهم عزّ عنه العوض. ولو كنا من قوم القائل:(إذا مات منا سيد قام سيد) لكانت حالتنا النفسية غير ما هي.
والجانب المفيد في هذه الذكريات أن تكون درسًا لخصائص الرجال، وتجلية لمناشئ ذلك فيهم، ووضعًا للأيدي على الذخائر الخلقية المودعة في نفوسهم الكبيرة وإعلانًا للميزات العالية التي كانوا بها رجالًا، وإذاعة لما يجهله الناس أو يغلطون فيه من موازين الرجولة أو يبخسونه من قيمها، كل ذلك بتصوير يبيّن موقع التأسي ويسوق إليه ويحمل عليه.
وجوانب العظمة في حياة أخينا مبارك كثيرة، ومآخذ العظات والأسى من تلك الحياة أكثر. ولعل الكاتبين لسيرته والدارسين لحياته اليوم أو غدًا يستوفون البحث في نواحي تلك العظمة ويستخرجون تلك العظات يدلون بها قوافل شبابنا المغذة في صحراء الحياة على خضرائها، وينصبون منها أعلامًا هادية للضُّلَّال، ومنارات مرشدة للآتي من الأجيال. وأنا سائق لناشئتنا العلمية من حياة هذا الرجل عظة واحدة وقائل فيها ما تحتمله كلمة قصيرة في صحيفة صغيرة: تلك العظة هي طريقته في تحصيل العلم ووسيلته إلى تلك الدرجة التي وصل إليها في اتقان التحصيل وسعة الاطلاع وانفساح الذرع وإحسان الاستثمار.
فالرجل تلقّى التعليم البدائي في "ميلة" والمتوسط في قسنطينة والنهائي في الزيتونة. وليس في هذه المراحل ما يفوق به القرين أقرانه. فكثير من المحصلين بيننا سلكوا هذا السبيل: البداية في الوطن، والنهاية في الزيتونة، وقليل من يبعد النجعة إلى الأزهر، هذا هو الشأن. إن أبعدنا فمنذ خراب أمصار العلم كتلمسان وبجاية، وإن قربنا فمن رحلة أسرة الشيخ المختار الشوثري العياضي إلى هجرة قريبنا الشيخ سعد قطوش السطيفي في العقد الثالث من هذا القرن الهجري.