للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان- رحمه الله- كثير التحدّث عن هذه الكلية، تصوّر له خواطره منها أكمل مثال، فتجيش تلك الخواطر حديثًا ممتعًا لذيذًا ننازعه إياه ونجاذبه حبله فنذكي خياله في التصوّر وبراعته في التصوير ونحدو آماله إلى التحقق، وكان كلما اجتمعت ثلة من إخوانه تشاركه في الأمنية والرأي يجري حديث الكلية ويقول لإخوانه: أنا أستكفيكم في كل أمر يتعلّق بالكلية إلا الاستعمار فأنا أكفيكموه فخلوا بيني وبينه. يقول ذلك إيمانًا بربّه، واعتدادًا بنفسه، واعتزازًا بدينه. وكان منقطع النظير في هذه الثلاثة.

وقد اقترح على كاتب هذه السطور أن يضع برنامجًا جامعًا لدروس الكلية وكتبها ودرجاتها ومناهج التربية فيها وطرائق التعليم العالي، فقلت له: إن هذا شيء يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وقبله التمهيد ثم التشييد، فقال لي: إن البرنامج يذكي النشاط ويغري الهمم بالعمل. ففعلت. وجاء البرنامج حافلًا بالتدقيقات الفنية في التربية والاعتبارات العملية في التعليم، والكتب القيّمة للدراسة، ومعه تخطيط للكلية ومرافقها. فلما قرأه قال لي: كأني أرى بعيني ما خطّه قلمك حقيقة واقعة. وما ذلك على الأمّة الجزائرية الماجدة بعزيز. وما ذلك على رجالها المخلصين بكثير.

مات الأستاذ الرَّئِيسُ والأمنية تختلج في نفسه وتعتلج مع خواطره. ولقد مات وعواصف الفتن تعصف، ومدافع الحرب تقصف، وأعضاء الجمعية مشتتون بسبب تلك الهزاهز التي تُذهل الخليل عن خليله. فلما تنفّس الخناق قليلًا رأت جمعية العلماء التى كان يعمل الفقيد لها وباسمها وهي الوارثة لمعنوياته والمؤتمنة على مبدإ الإصلاح المشترك، أن تتمّ أعماله وتُحقّق آماله، وأن تبرز الكلية من الخيال إلى الحقيقة، فوجدت أن ذلك- كما هو الواقع- يستلزم اجتياز مراحل متتابعة: توسيع التعليم العربي الابتدائي بتكثير مدارسه وتصحيح مناهجه وإعداد رجاله، وقد بلغت الجمعية من هذا في السَّنوات الأخيرة- رغمًا عن العراقيل- ما تُغبط عليه، وما لو اطلع عليه المرحوم من وراء حجاب الغيب لسرّه ولعدّه من الخوارق. ثم خطت إلى المرحلة الثانية خطوة بتأسيسها لمعهد قسنطينة في أواخر السنة الماضية. ولسنا نعدّ المعهد مدرسة ثانوية فضلًا عن كونه كلية لأننا نسمّي الأشياء بأسمائها ولا نزور فيها. ولأننا نعلم أن تفخيم مثل هذه الأشياء مزلقة إلى الكذب فيها والتزوير على الحقيقة بها، ومدعاة إلى غشّ الأمّة في أبنائها. وما وجد التفخيم إلا كان سببًا في الترخيم. والترخيم حذف ونقص. وإنما المعهد مدرسة دينية ابتدائية أرقى من مدارس البنين تهيّئ للتعليم الثانوي الذي يهيّئ للتعليم العالي. وما ربطناه بجامع الزيتونة إلا تمهيدًا لذلك، وإلّا تدريبًا لطلّابه من أوّل مرحلة على المناهج التي تفضي بهم إلى آخر مرحلة، حتى ينتقلوا من الأشبه إلى الأشبه، فلا تشتبه عليهم المسالك ولا يضلّ بهم الدليل، والنية معقودة- إذا يسّر الله الأسباب- على إحداث معهد في الجزائر وآخر في تلمسان تسهيلًا على الطلاب واستيعابًا لعددهم المتزايد.

<<  <  ج: ص:  >  >>