للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليلة في الأسبوع، ولا أكتبها إلا بعد مضايقة من المطبعة لحمزة (١)، ومضايقة من حمزة لي: وحمزة- فيما يتراءى لي- أجرأ أسرة البصائر علَيّ، وقد أكتب الكلمة وأنا مسافر فأحسّ في باطن نفسي راحة من مضايقة حمزة لي. وأن مضايقات حمزة لأعود بالخير على "البصائر" من ضيقي وتبرمي، ولعلّي كشفت عن بعض السبب في التفاوت الذي يلمسه القرّاء في تلك الكلمات في الأسلوب والموضوع والطول والقصر.

سلكت مع نفسي في المدافعة والمساومة فجًا آخر فقلت: سأرضيك- نسيئة لا نقدًا- بالكتابة على صحيفة سخيفة، تدعو إلى دين بني حنيفة. أو على صحافي حافي شره ليس بالخافي. فقالت: لست مسيئة، حتى أرضى النسيئة. ولا يكتب عن صحافي أو صحيفة في عدد خاص، إلا رجل (باص). ونفسي- كما يعلم بعض القرّاء- جزائرية سطيفية، فكلمة باص بتشديد الصاد من لغتها. ومعناه: لا عقل له. فقلت: أو قد بلغت بي إلى هذا الحدّ يا أمة الله؟ فقالت: ولا بدّ من الكتابة عليّ في هذا العدد. فقد كتبتَ على بعض النفوس فقال الناس أحسنت التصوير، وقالوا أبدعت. وأنا أعلم من هنياتك أنك ستكتب على نفوس أخرى. وأعلم من خفاياك أنك ستسلك بها شعابًا من التصوير لم تسلكها إلا في ملاحم أفلو (٢) التي سيقرؤها الناس بعد موتك- وأنا نفسك التي بين جنبيك، وأنا أقرب الأشياء إليك، وأنا وأنا ... ومضت تتجنّى وتتعنّت. فقلت فضحتني فضحك الله. وإنك لمملوءة الوطاب، من سوء أدب الخطاب. ولست في هذه المرّة أمة الله وإنما أنت أمة الشيطان، وسأكل الكتابة عليك إلى فلان ... قالت: بائع مدح وقدح. يعرف القيم الفلسية، لا القيم النفسية. وأحر به أن لا يشرف إذا مدح، ولا ينكى إذا قدح. وهنا فلسفة أنت عن معرفتها غني، قلت: فإلى فلان ... قالت: يتسرع، ويتبرع، ولا يتورع. فإذا مسّته الحاجة يتضرّع، وإذا مسّته الكلمة يتجرّع من الغمّ ما يتجرّع. وأخلق بكتابته أن تكون صبغة من نفسه. قلت: فإلى فلان ... قالت ذاك طائش السهام، راكد الإلهام. ثائر الأوهام، فأية منزلة تبلغنيها كتابته؟ وعرضت عليها نسقًا من الكتاب الراضين عليها والساخطين فأبت إلا أن تكون الكتابة مني عني.

وقعت من نفسي- لأول مرّة منذ اصطحبنا- على باقعة، فجنحت للسلم. ولولا حرمة الشهر وعهد المعهد لأخرجت للقرّاء من هذه المحاورات بين رجل ونفسه ما يضحكهم في الزمن العابس، ويسيرهم إلى السرور والركب حابس.

وقد اتفقنا بعد طول الجهد على أن أكتب عليها وعلى المعهد من الجهة التي يتصلان فيها. وهي أثرها في تكوينه- فإذا قرأ القرّاء لي هذه الكلمة المهلهلة ورأوا فيها حديثًا عن


١) هو الشيخ حمزة بوكوشة عميد "البصائر".
٢) "أفلو" قرية بالجنوب الوهراني، نفت السلطة الاستعمارية إليها كاتب المقال في أوائل الحرب فنظم في أيام الفراغ ملحمة رجزية في شجون من الحياة.

<<  <  ج: ص:  >  >>