للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يغرنه زهوه وخيلاؤه فإن الدائرة في الأخير لا تدور إلا على رأسه، وإن من أعظم أدواء الغرور أن يلبس الإنسان غير لبوسه فيجني نتيجته هزيمة منكرة، ومرارة مستديمة، وتتعطّل به قوة الفرد، وقوى الجماعة، وأي خير بعد ذهاب القوة؟ ... وهل دارت الدائرة في غزوة أحد إلا على رأس المسلمين؟

ثم إذا طوينا صفحات من التاريخ، وجئنا نعدّد أيام المسلمين الزاهرة كيوم اليرموك، ويوم القادسية، وأجنادين، وذكرنا رجالها، وفي مقدمتهم خالد بن الوليد، وعياض بن غنم وما أدراك من هما، وتصوّرنا العقبات التي لاقاها أولئك الأبطال في صلابة النفوس، ووعورة المسالك، وحداثة عهدهم بالنهوض، سواء مع الفرس أو الروم، عرفنا جلال عظمة تلك الأيام، وعصامية أولئك الأبطال المغاوير، وإذا ذكرنا أيام المسلمين الزاهرة التي مهّدت للمسلمين فتح مصر، وشمال أفريقيا، والأندلس وذكرنا في تاريخ الأندلس مثلًا واقعة "الأرك" و "الزلاقة" ويوميهما، وذكرنا عبد الرحمن بن معاوية الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وتصوّرنا حضارة العرب بالأندلس- كما في الشرق- تمثّلنا الإسلام في أروع مباهجه، وأعلى مكارمه، وأسمى روحياته.

أضِف إلى تلك الأيام يومًا أغرّ محجلًا ماجدًا في تاريخ المسملين ألا وهو يوم حطين بفلسطين، في عهد صلاح الدين، وما صلاح الدين إلا رجل كردي عادي لا يملك من ألقاب الشرف والحسب شيئًا، كان يدعى يوسف بن أيوب وكفى، ولكنّه كان صلاح الدين وحامي حمى المسلمين بحق، فهو قد رفع رأس المسلمين عاليًا، وحطّم الصليبيين تحطيمًا، وردّ غاراتهم ردًا قرّر مصير حياة المسلمين بعد ذلك في جميع جهات العالم، وأنقذ مكّة والمدينة حيث مأرز الإسلام وفخار المسلمين.

أجل حارب الصليبيين الذين رابطوا قرب المعرّة نحو مائة عام يستعدّون لتسديد الضربة القاضية فهزمهم هزيمة شنعاء لم يعرف التاريخ نظيرها في تلك الأيام، وهم قوم غلاظ شداد يحملون في نفوسهم حقدًا على الإسلام والمسلمين طالما غذاه القساوسة والرهبان في أوروبا بمختلف أنواع التغذية المسمومة، الراجعة إلى خبث الطوية، وفساد التربية، وسوء التوجيه، أولئك هم الصليبيون الذين حاربهم صلاح الدين، وتلك بعض صفاتهم، وأولئك هم الذين ما تزال بعض سماتهم ماثلة للعيان في بعض الأمم حتى في أيامنا هذه.

بلى، إن الأرك والعقاب بالأندلس، وحطين بفلسطين، واليرموك بالشام، والقادسية بالعراق، وبدر بالحجاز هي أسماء أماكن وقعت فيها غزوات، ولكنها لا تدلّ في فهمي إلا على درس خالد في الوطنية العليا، إذ خلود الأماكن خلود للأوطان، وإن في حياة خالد وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي وما أتوا من خوارق العادة لأعظم درس في سير

<<  <  ج: ص:  >  >>