للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورووا أن ابن هانئ الاندلسي، شاعر الزاب (وطنكم هذا) وشاعر الدولة الفاطمية، أنشد ممدوحه قصيدة من الشعر والممدوح راكب، وفوارسه حافة به، فلما بلغ إلى قوله يخاطب الجيش الراكب:

مَنْ مِنْكُمُ المَلِكُ المُطَاعُ كَأَنَّهُ ... تَحْتَ السَّوَابِغِ تُبَّعٌ فِي حِمْيَرِ

ترجل الجيش كله، ولم يبق راكبًا إلّا الملك الممدوح، وهو جواب ليس له في الأجوبة المكتوبة ولا المنطوقة نظير.

بذلك كان الشعراء في العرب يتولون قيادة النفوس، كما كان العلماء في الإسلام يتولون قيادة العقول، وبتلك القيادة استطاع الشعر أن ينشر فيهم مكارم الأخلاق ومحامد الشيم، وبذلك غدا أجدادكم العرب مضرب المثل بين الأمم في سخاء اليد وشرف النفس وكرم الطبع وقوة العزيمة.

فأنا أريد أن أرجع بكم إلى ذلك الماضي الجليل، ولئن قال لنا أقوام: إنكم تعيشون في الماضى القديم، لَنقولن: إننا نعيش بالاستمداد من الماضي، والعمل للحاضر، والاستعداد للمستقبل، ولعلكم في هذا المجلس سترتفعون بالذكريات إلى الماضي الخالد، حين تستمعون من الشعر ما يمثل لكم زهيرًا والنابغة في الأوّلين، وأبا العتاهية والمتنبي في المحدثين حين تسمعون الوصية ممزوجة بالحكمة مدغمة في النصيحة معجونة بالفخر، من شاعر بسكرة، بل شاعر الجزائر بل شاعر العروبة والإسلام- ولا أحابي- محمد العيد آل خليفة.

إنَّ حجب الغيب شفافة عند الشعراء، فأذكر أنني منذ سنوات كنت هنا ببسكرة أخط الخطوط الأولى من التدبير لمدرستكم التي نفتحها اليوم، وكانت المعاكسات واقفة لنا في كل مسلك، ثم عرجتُ على مدينة "باتنة" على وعد لإقامة حفلتها المدرسية، فوقف شاعرنا محمد العيد في ذلك الحفل يلقي قصيدته العينية المشهورة، يذكر فيها أعمالي ويسألني- في لهفة- عن بلده "بسكرة" وعن حظها في هذه المنقبة وهي بناء المدارس، فيقول:

فهل نخلت أرض النخيل شؤونها ... وهل شرعت (مشروعها) المتوقعا

وها هو يتلقّى الجواب اليوم وبعد سنوات، فقد نخلت "بسكرة" شؤونها، وأصبح مشروعها واقعًا لا متوقعًا.

إني أجاهركم بأنكم جهلتم قدر شاعركم، وواطأكم على هذا الجهل الجزائريون جميعًا، ولو كان محمد العيد في أمة غير الأمة الجزائرية لكان له شأن يستأثر بهوى الأنفس، وذكر يسير مسير الشمس.

<<  <  ج: ص:  >  >>