للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن المؤسف أن الاستعمار يفهم من معاني فصل الدين عن الحكومة أكثر مما نفهم، ويدرك من آثار القضية وخطرها أعظم مما يدرك جمهور المسلمين أصحاب الحق فيها- ولولا فهمه العميق للقضية، وإدراكه لخطرها لما تشدد هذا التشدد كله في الفصل بعد أن أفحمته الحجج، ولما داور هذه المداورة، بعد أن ضيقنا عليه الخناق، فنقل القضية من مجلسه الوطني ذي النفوذ، إلى مجلسه الجزائري الذي لا نفوذ له.

وعسى أن يأخذ الغافلون منا عن خطر هذه القضية- درسًا من تصلب الاستعمار فيها، فيعلموا أنه يدافع عن مصلحة قيمتها عدة مليارات ذهبية من أوقافنا، وعن جيش من الموظفين الدينيين يستخدمه في أغراض استعمارية، وعن سلطة واسعة لا حدّ لها في الميدان الديني.

إن بقاء الإسلام ومعابده ورجاله وشعائره وأوقافه في يد حكومة الجزائر- هو أعظم جريمة في هذا العصر، ولكنها جريمة يبوء بإثمها وسبتها في التاريخ فريقان: فرنسا بارتكابها، والأمة الجزائرية بالغفلة عنها والتساهل فيها، وإذا كانت فرنسا لا تستحي من الإصرار على مأثم، ومن تشويه سمعتها بهذه اللطخة، فإننا نستحي من الله أن يرانا مقصرين في حق دينه، نائمين عن العمل لتحريره، وقد قامت "البصائر" في مدى أربع سنوات بما يجب أن يقوم به المؤمن الصادق إذا مس دينه بسوء، فكتبت عشرات المقالات، وشهرت بالحكومة ونددت، وأقامت الحجج، وأبطلت المكائد، وان في تلك المقالات لتسجيلًا لمواقف جمعية العلماء في هذه القضية، وان فيها لبلاغًا لقوم يعقلون.

وما زلنا نطالب، وما زلنا نغالب، لا يهدأ لنا بال، ولا تكل لنا إرادة، ولا تفل لنا عزيمة، حتى يتحرر الإسلام في الجزائر، ويرجع الحق إلى أهله والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

ومن أعمال جمعية العلماء البارزة لهذه القضية في هذه الحقبة مباغتة المجلس الجزائري بتلك المذكرة التي قرأتموها، وقد أطارت صواب الحكومة ومجلسها، فحاصوا وماجوا، ثم لاذوا بالصمت والتظاهر بعدم المبالاة، ثم أتبعناها بتدبيرآخر محصناه حتى ترجح لنا الإقدام عليه، وهو السفر إلى فرنسا، والاتصال بجهات الاختصاص في القضية، فسافرنا وبسطنا القضية للرأي العام الفرنسي، وقابلنا رئيس الوزارة ووزير الداخلية ووزير العدل، واللجان السياسية للأحزاب، واللجنة البرلمانية، وشرحنا لهم الحقائق فما وجدنا إلا الكلام المعسول والوعود الواهية، وما استفدنا إلّا أن "العصية من العصا"، وان "زييدا هو ابن زيد": ورجعنا أقوى مما كنا، ثقة بالله وبأنفسنا، واستفدنا شيئًا آخر أعمق أثرًا، وهو نشر القضية في العالم بواسطة الجرائد وشركات الأخبار.

وقد تكفلت "البصائر" بخدمة هذه القضية كما ذكرناه في الحديث السابق عليها، فلا فائدة في التطويل به عليكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>