للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبوة لا يتم أولهما إلا بثانيهما ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأولهما. وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد فجثث القتلى من هذه الأمة ضحيته" [ص:٣٣٣].

إن ما يتميز به الخطاب الإبراهيمي، إذن، هو: استعانته بكل المناهج، كالتاريخية التحليلية، والفلسفية النقدية، والرياضية البرهانية، وهي تترجم كلها مدى أهمية الموسوعية المعرفية التي تطبع ثقافة الإمام البشير، وخصوصًا مدى تفتحه على ثقافة عصره، وهو الذي ورث تكوينًا على يد علماء "تقليديين".

والأهم في كل ذلك أنه بهذا الأسلوب يرفع أية قضية من قضايا مجتمعه وشعبه- مهما صغرت- إلى درجة التحليل المعرفي ليجعل منها قضية عقلية كبرى. وكما يقول هو عن إحدى هذه القضايا، وهي تضييق الحكومة الفرنسية على المدارس القرآنية، ومطاردة معلميها، وإخضاعهم للمساءلة، والنفي، والمحاكمة: "قضية بسيطة، أساسها ظلم، وحائطها بغي، وسقفها عدوان، وأصلها الأصيل ((فتح مكتب قرآني بدون رخصة حكومية)) تتدحرج من محكمة إلى محكمة، ومن حاكم إلى حاكم حولا كاملاً": [ص:٢٢٦]. "وما أغرب شأن الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي: فئة تدرس في جامعة، وملايين ترسف في (جامعة) - وهي القيد الذي يجمع اليدين والرجلين- ويا بعد ما بين الطرفين" [ص:٢٣١].

وما أبرعه من عقل، يضفي على كل قضية طابع الاستنباط العقلي، ليلفت الانتباه، فيقابل بين فكرة صحيحة وأخرى فاسدة، وبين خاطرة أصيلة، وأخرى وافدة، ليبني النتيجة على المقدمات وتلك- والله- مهمة الفيلسوف القدير، والمحامي الخبير. إن هذا المنهج المقارن الذي نلتقي به في أدب الإمام الإبراهيمي، ليعد نسجًا فريدًا في الخطاب العربي المعاصر، حيث يستخدم فن "التوليد اللغوي" و "التصوير المعنوي" في رسمه لحدود القضايا، فيضفي بذلك على تلك القضية طابع الأهمية المفقود، وعامل الخطورة المقصود، ويجعل القارئ أو السامع الموجه إليه الخطاب، مأسور العقل، مشدود البصيرة.

لنستمع إليه في هذه الصورة الرائعة في مقابلة الدين السماوي، بالسماء لننتهي معه إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي مسؤولية علماء الدين. في طريقة عرض الدين وجناية جهلهم عليه: "والدين السماوي، علو وصفاء، وظهور بلا خفاء، وحقائق ثابتة، ونسب غير متفاوتة، وحركات منظمة، وأحكام مقوّمة، فإن خفيت السماء فمن الغيم، وهو من الأرض، وإذا خفيت حقائق الدين فمن الجهل أو من الضيم، وهو من سوء العرض" [ص:١٨٣].

وعندما يتوجه الكاتب بالخطاب إلى طلاب العلم من أبناء الجزائر في تونس، والمغرب، يرسم لهم صورة عقلية دامغة الحجة في إيجاد التفرقة بين المعرفة المطلوبة،

<<  <  ج: ص:  >  >>