للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا كان للسياسة معناها المعقول، ولكن السخافة كلها في هذا التبذّل الذي أصبحت معه كلمة السياسة كلفظ "البعبع"- هذا يخوف به الصغار، ولا حقيقة له، وتلك يخوَّف بها الكبار، ولا معنى لها؛ وما جاء هذا البلاء إلا من الوضعية الشاذة التي بني عليها نظام الحكم الاستعماري على المسلمين في الجزائر- حكومةٌ "لائكية" في الظاهر، مسيحية في الواقع، جمهوريةٌ على الورق، فردية في الحقيقة؛ تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم؛ وما دامت هذه السيادة سائدة، وما دامت العنصرية موجودة، فإن هذه اللفظة (لفظة السياسة) تبقى ذليلةً مهينة، مجردةً من جلالها وسُموها، نجدها في باب الإجرام والاتهام، أكثر مما نجدها في باب الإكبار والاحترام.

إن أعلى معاني السياسة عند الحاكمين هو تدبير الممالك بالقانون والنظام، وحياطة الشعوب بالإنصاف والإحسان، فإذا نزلوا بها صارت إلى معنى التحيل على الضعيف ليؤكل، وقتل مقوّماته ليهضم، والكيد للمستيقظ حتى ينام، والهدهدة للنائم حتى لا يستيقظ.

وهذا المعنى الأخير هو الذي جرى عليه الاستعمار، ووضعه في قواميسه، وأقرّه في موضعه من نفوس رجاله ودُعاته؛ بحيث إذا أطلق بينهم لفظ السياسة لا يفهمون منه إلا هذا؛ وتراهم يحرّمون على الشعوب الخاضعة لهم- الخوض في هذا المعنى السافل، لئلا يجرّهم إلى الخوض في المعنى العالي، وتراهم يهيئون لتلك الشعوب من قشور ذلك المعنى وفتاته تعلات يلهونهم بها إذا بلغ بهم التبرم حده، ومن هذه التعلات الانتخابات الناقصة التي فتح الاستعمار للجزائريين كوّةً منها، فلم تدخل عليهم إلا الشر وضياع الأموال وتمزيق الوحدة.

هذا معنى السياسة عند الحاكمين، عاليًا ونازلًا، أما عند المحكومين فأعلى معانيها إحياءُ المقومات التي ماتت أو ضعفت أو تراخت، من دين ولغة وجنس وأخلاق وتاريخ وتقاليد، وتصحيحُ قواعدها في النفوس، ثم المطالبةُ بالحقوق الضائعة في منطق وإيمان، ثم الإصرارُ على المطالبة في قوة وشدة، ثم التصلبُ في الإصرار في استماتة وتضحية، مع اختيار الفرص الملائمة لكل حالة؛ درجاتٌ بعضها فوق بعض؛ فإذا نزلوا بها صارت إلى هذا التحاسد على الرياسة، وهذا التهافت على كراسي النيابة، وهذه المناقشات الفارغة في القشور، وهذا الجدل الشاتم السباب، وهذا الافتتان المزري بالأشخاص، وكل ذلك نراه على أقبح صوره في المجتمع الجزائري، في حين أن ذلك كله ليس من مصلحة الأمة الجزائرية، ولا في فائدة قضيتها، بل هو كله في مصلحة الاستعمار.

إن هذه السفاسفَ لم تبنَ على مقاصدَ صحيحة، فلم تأت بنتائج صحيحة، ولم تنشأ عن إيمان راسخ، فلم تظهر لها ثمرةٌ ناضجة، ولما بليت السرائر تبين أن سياسيينا كلهم

<<  <  ج: ص:  >  >>