للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قرأنا سِير الإنكليز في الهند فوجدناهم بالغوا في إعطاء الحرية للأديان حتى بلغوا حد السخافة، وسوّوا في تلك الحرية بين (قرّاء البقرة) بالحق، وبين (عباد البقرة) بالباطل، ويسّروا سبيل الحج حتى اتّسع معنى الاستطاعة.

وقرأنا عن تلك الدويلات الاستعمارية- وشهدنا- أنها تحترم الأديان الموجودة في مستعمراتها حتى الوثني منها، والمضاد لحضارة الإنسان، والواقف في طريق الرقي العقلي. ولو أنها خصّت الوثني منها بالاحترام والحرية لقلنا: إنها مكيدة تجعل بها حرية الدين وسيلة لاستعباد المتدينين به. ولكنها أرخت عنان الحرية للإسلام الذي هو أعظم خصوم الاستعمار، وأقوى عامل للتخلّص منه.

ثم ما بالها خالفت نفسها، وناقضت مبدأها؛ فهي في فرنسا تدين باللائكية وحرية الأديان، ينصّ على ذلك دستورها، ويجري عليه تعليمها، وتتأثّر به أمّتها، وهي في الجزائر "تتمسّك" بالإسلام هذا التمسّك، وتتشدّد في "القيام" به هذا التشدّد، وتتعنّت في الانفصال عنه هذا التعنّت.

...

في الدول المستعمرة مَن هي أبرع من فرنسا في فقه الاستعمار، ومَن بلغت فيه رتبة الاجتهاد المطلق، وهي- مع ذلك- تعامل الإسلام بما يليق به من كرامة، وبما يستحقه من حرية، فهل هي في هذا جاهلة لأصول الاستعمار؟ وهل هي في هذا غافلة عما في حريته من خطر؟ لا ... وإنما هي في هذا أوسع نظرًا وأكثر تبصّرًا بالعواقب من فرنسا. وهي ترى أن إعطاء الحرية للإسلام جلب للهناء والسعادة وحسن العشرة ولو إلى حين، وهي تعتقد في قرارة نفسها أن الاستعمار لصوصية، واللصوصية أحوج الأشياء إلى الحذق، وهي قد جرّبتْ فعلّمتها التجارب أن حرية الأديان لا خطر فيها، وإنما هي خير وراحة ورضىً واطمئنان؛ ولو أن فرنسا السيّئة الظن بالإسلام، والموجسة من حريته خيفة، رمتْ ببصرها إلى ما وراء الحدود الجزائرية، ولو أنها كانت ممن ينتفع بالتجارب، لرأت في المغرب وتونس ما ينقض عليها عقيدتها في الإسلام، ولغيّر نظرتها إليه، وحكمها عليه، فالإسلام في القطرين حرّ، وإدارته بيد أهله ولم يأتها الخطر من تلك الحرية، بل إن حرية الدين في القطرين سدّت عليها أبوابًا من الخطر والإقلاق. وإذا قلنا إن الإسلام حرّ في المغرب وتونس فإننا لا نعني من الحرية معناها الواسع الصحيح لأن الاستعمار الفرنسي لا ينسى عوائده. ولا يخالف أصوله وما زال يتخذ من أعماله في الجزائر- على شناعتها- نموذجًا يحتذيه في الأقطار التي ابتليت به: لا ينتفع بالعظات، ولا يتطور مع الأوقات، وفي تدخله في الأوقاف الدينية بتونس

<<  <  ج: ص:  >  >>