للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال الحسن أيضًا: «إن قومًا أَكرَموا الدنيا فصَلبتْهم على الخُشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها» (١).

وهذا باب واسع.

وأهل الدنيا وعُشَّاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها. ولما كانت هي أكبر هَمّ مَن لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده في طلبها.

وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأملْ حال عاشق فانٍ في حب معشوقه، فكلما رامَ قربًا من معشوقه نأى عنه، ولا يفي له، ويهجره ويَصِلُ عدوَّه، فهو مع معشوقه في أنكد عيش، يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء، كثير (٢) الجفاء، كثير الشركاء، سريع الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلوُّن، لا يأمن عاشقُه معه على نفسه، ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه، ولا يجد عنه سبيلًا إلى سَلْوةٍ تُريحه، ولا وصالٍ يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذابٌ إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حِيْل بينه وبين لذّاته كلها، وصار معذَّبًا بنفس ما كان ملتذًا به، على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده، ومصالح معاده؟


(١) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (٤٨٩) عن الحسين بن عبد الرحمن عن شيخ مولى لبني هاشم عن الحسن به، إلا أنه قال فيه: «فأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها».
(٢) الأصل: «كبير».