إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاعَ من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنَقْدِ البلد ولا غيره، ولا بثمن حالٍّ أو مؤجَّل؛ فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يَعُمّ هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع [١١٢ ب] الإجزاء إذا أتى بها.
وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة. وهذا غلط بيّن؛ فإن اللفظ لا تَعَرُّض فيه للقيود بنفي ولا إثبات، ولا الإتيان بها ولا تركُها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمورُ به لا يخلو عن واحد منها، ضرورة وقوعه جزئيًّا مُشَخِّصًا، فذلك من لوازم الواقع، لا أنه مقصود للأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل.
وقد خرج بهذا الجوابُ عن قول من قال: لو كان الابتياعُ من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراءُ التمر الجيِّد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص، كما لا يُحتجّ به على نفي سائر الشروط.
وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: ١٨٧] على جواز أكل كُلّ ذي نابٍ من السباع ومِخْلبٍ من الطير، وعلى حِلّ ما اختُلِف فيه من الأشربة، ونحو ذلك؛ فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال؛ إذ لا تعرُّض للَّفظ لذلك، ولا أُريد به تحليل مأكول ومشروب، وإنما أُريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه.