إذا عُرف هذا، فأصل كلِّ فعل وحركة في العالم من الحبّ والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغضَ والكراهية مبدأ كل ترك وكَفٍّ، إذا قيل: إن الترك والكفّ أمرٌ وجودي كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عَدَميٌّ فيكفي في عدمِهِ عَدَمُ مُقتضيه.
والتحقيق أن الترك نوعان: ترك هو أمرٌ وجوديّ، وهو كف النفس ومَنْعُهَا وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وُجوديٌّ، وتركٌ هو عدمٌ محضٌ، فهذا يكفي فيه عدم المقتضي.
فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفي فيه عدمُ السبب المقتضي لوجوده، وقسم يستلزم وجودَ السبب الموجب له من البُغْضِ والكراهة، وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كَفّ النفس وحَبسها إلا لقيام سبب من المحبة والإرادة، يقتضي أمرًا هو أحبّ إليه من هذا الذي كفّ نفسه عنه، فيتعارضُ عنده الأمران، فيُؤْثرُ خيرهما وأعلاهما، وأنفعهما له، وأحبهما إليه على أدناهما، فلا يترك محبوبًا إلا لمحبوب هو أحبّ إليه منه، ولا يرتكب مبغوضًا إلا ليتخلّص به من مبغوض هو أكره إليه منه.
ثم خاصِّيَّةُ العقل واللُّبِّ التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات [١١٨ ب] بقُوَّةِ العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين للتخلُّص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين.
فالنفس لا تترك محبوبًا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروهًا إلا لتحصيل محبوب، أو التخلُّص من مكروه آخر، وهذا التخلُّص لا تَقْصِدُه إلا لمنافاته لمحبوبها، فصار سَعْيُها في تحصيل محبوبها بالذات، وأسبابه بالوسيلة،