فيا للعجب! بأي وجه بعد هذا يستحقُّ الصليبُ التعظيم، لولا أن القوم أضلّ من الأنعام!
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان، ولا ذِكْر له في الإنجيل البتة، وإنما ذُكر في التوراة باللَّعْنِ لمن تَعَلّق به، فاتخذته هذه الأمة معبودًا يسجدون له، وإذا اجتهد أحدُهم في اليمين، بحيث لا يحْنَثُ ولا يكذبُ، حلف بالصّليب، ويكذبُ إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب.
ولو كان لهذه الأمة أدنى مُسْكةٍ من عقلٍ لكان ينبغي لهم أن يَلعنُوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صُلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لُعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرضُ حين قتل قابيلُ أخاه، وكما في الإنجيل:«إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان».
فلو عقلوا لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبًا، ولا يمسّوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم، وإذا ذُكر لهم سَدّوا مَسامعهم عن ذكره.
ولقد صدق القائل: عدوٌّ عاقل خيرٌ من صديق أحمق؛ لأنهم بحُمْقِهم قصدوا تعظيم المسيح، فاجتهدوا في ذَمّه وتنقُّصه، والإزراء به، والطّعْن عليه، وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغراءَهم بهم، فَنَفّروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدِّين لا يقوم بذلك، فوضع لهم رُهبانُهم وأساقفتهم من الحِيل والمخاريق وأنواع الشّعْبَذَة ما استمالوا به الجُهّال، وربطوهم به، وهم يَسْتجيزون ذلك، ويستحسنونه، ويقولون: إنه يَشُدّ دين النصرانية!