لقد تأملتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تُروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: ٥]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر: ١٠]، وأقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: ١١]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه: ١١٠]، ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».
فهذا إنشاده وألفاظه في آخر كتبه، وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق في علم الكلام والفلسفة. وكلام أمثاله في مثل ذلك كثير جدًا، قد ذكرناه في كتاب «الصواعق»(١) وغيره، وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء:«آخر أمر المتكلمين الشك، وآخر أمر المتصوفين الشطح». والقرآن يُوصِلك إلى نفس اليقين [١٤ أ] في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به، وجعله شفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة؛ بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقَصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عمَّا يضرُّه، فيصير القلب محبًّا للرشد، مبغضًا للغيِّ، فالقرآن مزيل للأمراض الموجِبَةِ للإرادات