فمن عَدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موتُ الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش! وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب: ١٦].
فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفعُ، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا، إذ لابدّ له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خيرٌ منه وأنفع، من حياة الشهيد عند ربه.
فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحدٌ من الله، إن أراد به سوءًا غيرَ الموت الذي فرّ منه، فإنه فَرّ من الموت لَمّا كان يسوؤُهُ، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يَفرّ مما يسوؤُه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوؤه مما هو أعظم منه.
وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فهكذا الأمر في مصيبة المال والعرض والبدن، فإن مَنْ بَخِلَ بماله أن يُنْفِقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سَلَبَه الله إياه، أو قَيّضَ له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرَّته عاجلًا وآجلًا. وإن حبسه وادّخره منعه التَّمتُّعَ به، ونقله إلى غيره، فيكون له مَهْنَؤه وعلى مَخلِّفه وزْرُه.