وليس هذا بعجيب من شأنه، وقَدْ فَقَدَ نصيبه من الهدى والرحمة، فلو هُدِي ورُحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الربّ تعالى أعلمُ بالمحلِّ الذي يصلح للهدى والرحمة، فهو الذي يؤتيهما العبد، كما قال عن عبده الخضر:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[الكهف: ٦٥].
ومما ينبغي أن يُعلم: أن الرحمة صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشَقّت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرْحَمُ الناس بك من شَقّ عليك في إيصال مصالحك، ودَفْعِ المضارّ عنك.
فمن رحمة الأب بولده: أن يُكرِهه على التأدّب بالعلم والعمل، ويشقّ عليه في ذلك بالضّرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظنّ أنه يرحمه ويُرفّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم.
ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به، ولكنّ العبد لجهله وظُلمه يتّهم ربَّه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
وقد جاء في أثر (١): «إن المبتلى إذا دُعي له: اللهم ارحَمه، يقول الله
(١) ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب (٢/ ٣٩) بغير إسناد فقال: رُوي أنّ موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيمِ البلاء فقال: يا ربّ ارحمه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: كيف أرحمه ممّا به أرحمه.