فإن الله سبحانه قسَّم البِيَاعَات المقصودة التي شرعها لعباده، ونصبها إقامةً لمصالحهم في معاشهم ومعادهم: إلى بيوع مُؤَجَّلة وبيوع حالَّة، ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجّلة بالكتاب والشهود، وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن؛ حفظًا لأموالهم، وتخلُّصًا من بطلان الحقوق بجحودٍ أو نسيان، ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالَّة؛ لأمنهم فيها [١١٣ ب] مَفسدة التجاحد والنسيان.
والمراد بالتجارة الدائرة: البياعات التي تقع غالبًا بين الناس.
ولم يفهم أحدٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ولا أهل التفسير، ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابِيَيْنِ، بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا، ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية.
ومما يدلُّ عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل، بأن يبتاع منه سِلْعةً بثمن حالٍّ، ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل، وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب، خشية الجحود، والله سبحانه قال:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}، فاستثنى هذا من قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}[البقرة: ٢٨٢].
وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمّى، واتفقا فيها على المئة بمئة وثلاثين ونحو ذلك، فأين هي من التجارة الحاضرة، التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا؟