ولم يكن الفقهاء الذين ألّفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه جيلًا بعد جيل، فلمَّا نظر المتأخِّرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلَّما مَرّ عليه الزمان زادوا فيه، وأن في الزيادات المتأخّرة ما يُناقضُ أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يَقْطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرموا مَنْ يُضيف إليه شيئًا آخر، فوقف على ذلك المقدار.
وكانت أئمتهم قد حَرّموا عليهم في هذين الكتابين مُؤاكلة الأجانب وهم مَنْ كان على غير مِلّتهم، وحظروا عليهم أكل اللُّحمان من ذبيحة مَنْ لم يكن على دينهم لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى في هذه الخلوة، مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا أن يصُدّوهم عن مخالطة مَنْ هو على غير ملَّتهم، فحرَّموا عليهم الأكل من ذبائحهم، ومناكحتهم، ولم يمكنهم تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله تعالى، لأن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا الأزواج في عبادة الأصنام والشرك بالله، وحرَّم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قُربانًا إلى الأصنام لأنه قد سُمّي عليها اسمُ غير الله تعالى، فأما الذبائحُ التي لم تُذبح قُربانًا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها، وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عبَّاد الأصنام، وأكل ما يذبحونها على اسمها، فما بالُ هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين، وهم لا يذبحون للأصنام، ولا يذكرون اسمها عليها؟