وأما الفرقة الثانية: فهم الرَّبَّانيُّون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددًا من القرائين، وفيهم الحخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألةٍ بالصوت، الذي يسمونه:(بَثْ قُول).
وهذه الطائفة أشدّ اليهود عداوةً لغيرهم من الأمم لأن حخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحلّ للناس إن استعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شَرّفهم الله تعالى بهذا، وأمثال ذلك من التُّرَّهَات، فصار أحدهم ينظر من ليس على مذهبه وملَّته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظر إلى مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العَذِرة.
[١٧٠ ب] وهذا من كيد الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإن الحخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم، والإزْراء عليهم، ونسبتهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات.
وكلما كان الحخاميم فيهم أكثر تكلُّفًا، وأشد إصرًا، وأكثر تحريمًا قالوا: هذا هو العالم الرَّبَّانيُّ.
وممَّا دعاهم إلى التشديد والتضييق: أنهم مُبدَّدون في شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم في بلدة إلا وإذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يُظْهر لهم الخشونة في دينهم، والمبالغة في الاحتياط، فإن كان من المتفقّهة فهو يشرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهِمُهم التنزّه عَمَّا هم عليهم، وينسبُهم إلى قلَّة الدِّين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه