الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا؛ ليس له نظير فيقاسُ به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، وبينهما فروق كثيرة؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبِّه، وهو كادحٌ إليه كدحًا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللَّذَّات والسرور بغيره ما حصل؛ فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعَّم بهذا في حال وبهذا في حال، وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعَّم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرّته، وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت، وفى كل حال، وأينما كان. فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلَّ عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجَنان، لا كما يقوله من قلَّ نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظُّه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما هي مقالاتٌ لمن بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقلَّ نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرَّة عين الإنسان، وأفضل لذة الروح والقلب والجَنان، وأطيب نعيمٍ ناله من كان أهلًا لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التُّكلان.