الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى قراطيس معلِّمنا وحكيمنا لنودِّعه، فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خَلَتْ منا، فغُشي عليه حينًا غَشْيَةً، ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا، فأومأ إلينا أن كُفّوا عن البكاء، فتصبّرنا جَهْدَنا حتى هَدَأ وفتح عينيه، وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذِّركم منه، إنكم قوم غيّرتم فغُيِّر بكم، أطعتم جُهالًا من ملوككم، فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البَشَر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مَدْحَ الكاتب، وإنما حركة القلم بالكاتب».
ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذوريْنِ عظيميْنِ، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة:
أحدهما: الغلوُّ في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءًا منه، وإلهًا آخر معه، وأنِفُوا أن يكون عبدًا له.
والثاني: تَنَقُّصُ الخالق وسَبُّه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه ــ سبحانه وتعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا ــ نزل من العرش عن كرسيِّ عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبَّط بين البول والدم والنّجْوِ، وقد عَلَتْهُ أطباق المَشِيمَة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعًا صغيرًا يمصّ الثدي، ولُفّ في القُمُطِ، وأُودع السرير، يبكي، ويجوع، ويعطش، ويبول، ويتغَوّط، ويُحمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خَدَّيْهِ، وربطوا يديه، وبصَقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرًا بين لِصْبَيْنِ، وألبسوه إكليلًا من الشوك، وسمَّروا يديه ورجليه، وجَرّعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق، الذي بيده أُتْقنت العوالم، وهو