قالت الأمة الغضبية: التوراة قد حَظَرَت أمورًا كانت مباحة من قبل، ولم تأتِ بإباحة محظور، والنسخ الذي نُنكره ونمْنَع منه: هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكِّداتها ومقرِّراتها، فإذا جاء مَنْ أباحَه علمنا بإباحته المفسدةَ أنه غير نَبيٍّ، بخلاف تحريم ما كان مباحًا فإنا نكون متعبِّدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرَّمته التوراة، مع أنه إنما حُرّم لما فيه من المفسدة.
فهذه النُّكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقّاها خالفٌ منهم عن سالف، والمتكلِّمون لم يَشْفوهم في جوابها، وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفي نسخ الإباحة بالتحريم.
ولَعَمْرُ الله، إنه لمِمَّا يبطل شُبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة [١٦٨ ب] بالتحريم: هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة.
والشبهة التي عَرَضت لهم في أحد الموضعين: هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأتِ الشريعة بإباحته، فإذا حرَّمته الشريعة الأخرى وجب قطعًا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في الشريعة الأولى هي المصلحة، فإن تضمَّن إباحةُ المحرم في الشريعة الأولى إباحة المفاسد