ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قَصْدُهُ الدِّين ومتابعةَ الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى مَن له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يَدخُل معهم أحدٌ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارة، فيتميّز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يُحِبّ مِنْ عباده تكميلَ عُبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عُبُودِيّةٌ بمقتضى تلك الحال، لا تحصلُ إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيمُ الأبدان إلا بالحَرّ والبَرْد، والجوع والعطش والنَّصب وأضدادها، فتلك المِحَنُ والبلايا شَرطٌ في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عَدُوّهم عليهم يُمحّصهم ويُخلّصهُم ويُهَذّبهم، كما قال تعالى في حِكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أُحد: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إلى قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: ١٣٩ ـ ١٤٤].