فقد رأيتَ أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونَسْر واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال شيخنا (١): وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور؛ هي التي أوقعت كثيرًا من الأُمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشّرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقربُ إلى النفوس من الشرك بخشَبة أو حَجَر.
ولهذا تَجد أهل الشرك كثيرًا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادةً لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد.
فلأجل هذه المفسدة حَسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بَرَكة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بَرَكة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذٍ، وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون، سدًّا للذريعة.
قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور، متبرِّكًا بالصلاة في تلك البُقعة، فهذا عين المحادّة لله ورسوله، والمخالفةِ لدينه، وابتداع دينٍ لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول
(١) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ١٩٢ وما بعدها).