للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: ١٧ ـ ١٨]، فهذا المثل الناري، ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} إلى آخره [البقرة: ١٩]، فهذا المثل المائي. وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين، وبعض ما تَضَمَّنَاهُ من الحكم في كتاب «المعالم» (١) وغيره.

والمقصود أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: ٦٩ ـ ٧٠]، فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حيُّ القلب، كما قال في موضع آخر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: ٣٧]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤]، فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الرسول من العلم والإيمان، فعلم أن موت القلب وهلاكه بِفَقْدِ ذلك.

وشبَّه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور، وهذا من أحسن التشبيه؛ فإن أبدانهم قبور لقلوبهم، فقد ماتت قلوبهم وقُبرت في أبدانهم، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: ٢٢]، ولقد أحسن القائل:

وَفي الجهلِ قَبْلَ الموْتِ مَوْتٌ لأَهْلِه ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ

وَأَرْوَاحُهُمْ في وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهمْ ... وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ (٢)


(١) أي «إعلام الموقعين». انظر (١/ ١٥٠ ــ ١٥٢) منه.
(٢) البيتان بلا نسبة في أدب الدنيا والدين ص ٤٣، ونسبا لعلي بن أبي طالب في ديوانه.