أصفر الحصاد ست عشرة مرة على جبال الجليل وفي أوديته منذ ولدت مريم بنت يوسف وبعد ذلك جاء الطاعون تلك الطلعة الكبرى التي تحفر القبور في بلادنا الشرقية وتجرف النفوس جرفاً وتلقيها في المدافن الفاغرة أفواهها. ومن جملة من أخذه سيل الموت أو إحتزه سيفه أم مريم. فكانت هذه الوفاة بمنزلة صاعقة نزلت على هذه المظلومة لأنها كانت تحب
والدتها محبة لا توصف بعد هيامها بالله وبالعذراء مريم. بيد أنها لما كانت متمسكة بعروة الدين الوثقى كل التمسك سلمت أمرها بيد خالقها متكلة على عنايته، وعلى أن أمها انتقل من دار الفرار، إلى دار القرار، وقد فازت بالنعيم المقيم.
وبعد أن مضى على هذا الحادث المشؤوم ستة أشهر وتصرمت ثلاث ليال بعد عيد جميع القديسين تذكرت مريم أهوال الموت وفظائعه، وتجددت قروح قلبها المصاب بأنواع الآلام، لان في تلك الأيام، تتذكر النصرانية جميع موتاها وتستمطر البركات على قبورهم. ومن غريب الاتفاق إن وجه السماء الصاحي السافر في اغلب بلادنا الشرقية امتقع لونه، وتغضن جبينه، واكفهر سحابه، وتثاقل ضبابه. فضاق الأفق على منفسحه، واحتجبت الشمس كأنها لم تكن شارقة. ومما زاد في هذا المنظر حزناً وكآبة تناثر أوراق الأشجار. وسكوت الأطيار. وهبوب الأرياح. بين الادواح. هبوباً تتلاعب فيه الأوراق اليابسة. وتسمعك أصواتها المائتة كأنها حفيف الأفعى أو سحيق الملعى.