للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما انقضى هذا الزمن وظهرت دولة بني أمية، تلك الدولة التي أعلت شأن العلم عند العرب، أفاق هؤلاء الغزاة من كبوتهم، فإذا هم صفر الأيدي من الآداب، وفي بلاد تفوقهم في الرقي والإمعان في التمدن. لأنها كانت مارست جميع العلوم ونبغت في جميع فروعها وعقدت لها رايات الأولية في أكثريتها، فتنبهوا وعلموا أن لابد لهم أن يجاورهم في هذا

المضمار وألا فليس أمامهم إلا أن يرجعوا من حيث قدموا ثم لا تقوم لهم قائمة بعدئذ، فنظروا إلى الخلف فإذا الإسلام أمامهم وفتوحاته، وما صنعوا في سبيله وما بذلوا لأجله وبه يمكنهم أن يتفاخروا بما فعلوا ولكنهم لقرب العهد به لم يشاءوا أن يتخذه كوسيلة للمفاخرة، فنظروا إلى أبعد من ذلك إلى قبيله فإذا الماضي اغبر لا يبشر بشيء فما هم صانعون؟ أحوالهم ومحيطهم تدعوهم إلى أن يثبتوا لمحكوميهم أنهم قوم كانوا ذوي مدنية ورقي، وانه بشر بالإسلام بينهم قبيل ظهوره وغير ذلك ولكن ليس لديهم مستندات ولا كتب! هنا وقفوا حيارى! أي شيء ينيلهم مبتغاهم؟ ليس لهم طريق آمن من الشعر! فعمدوا إلى الرواة والمختلقين وحثوهم، فذكر الرواة ما يعلق بالفكر وتفنن المختلقون فاختلقوا أشعارا وأحاديث كثيرة، والشعر هو أقرب واسهل ما يتمكن به المرء لإخفاء معايبه وإبداء محامده، وهكذا عمدوا إلى الشعر، وطرقوا بابه، فوجدوه مفتوحا ميسورا.

لا يحمل القارئ كلامنا هذا على غير محمله ولا يظن إننا ننفي وجود ما يدعى بالشعر الجاهلي، كلا! بل أننا بالعكس نؤكد وجوده وإن يكن فيه بعض تحريف مهم وتلاعب. وقد قلنا أن العرب لم يعمدوا إلى المختلقين فقط بل إلى الرواة الصادقين أيضاً ولا ينكر الشعر الجاهلي إلا من كان على عينيه غشاوة وفي أذنيه وقروا بعقله تعصب، كما إننا لا ننفي وجود كثير من الشعر المنتحل، لأن أولئك المنتحلة انتحلوا الشيء الكثير منه وعليه فقد وجب الشك فيه وكما أسلفنا فقلنا أن الشك في ما رواه الرواة نتيجة لازمة لترقية البحث العلمي فإن بين العلماء في أوربا الآن من يقول أن الإلياذة والأوديسة ما كانت إلا جملة أبيات أما الباقي فقد نسج خيوطه بعض القصاص بل أن منهم من يذهب إلى أن

<<  <  ج: ص:  >  >>