للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الخجل استحوذ علينا وسد فمنا فلم نتمكن من أن ننطق بكلمة. ثم عين لنا غرفة في تلك الذهبية وأطلعننا على ما فيها من المواطن والمرافق وأخذنا بالمراجعة ومجاذبة أطراف الكلام كما اطلعنا على تأليفه وبينها الأمثال العامية المصرية ورد ما فيها من الألفاظ إلى أصولها من فصيحة ودخيلة فدهشنا لما رأينا فيه من التحقيق والتدقيق وما أودع ذلك الكتاب من الآراء النفيسة السديدة وكل ذلك بخطه كأنه الدر المنظوم.

ثم تراجعنا في أمور أخرى تاريخية وأدبية ولغوية ونحوية وبلدانية رأينا في عرضها وبسطها من الآراء البديعة ما دفعنا إلى أن نقدره حق قدره.

وبعد أن قضينا أسبوعاً على النيل أخذنا بسيارته إلى منزلنا فكان يزورنا كل يوم إلى ساعة مزاولتنا أم النيل فكان آخر مودع لنا بعد أن سايرت سيارته قطارنا مسافة بعيدة.

وفي جميع مكالماته ومفاوضاته كان ينطق بهدوء وسكينة وعلى وجهه أمارات الوقار والاحترام، وكان إذا رأى منا فكراً أصوب من فكره عدل للحال عما له ليتبع ما قلنا به. ولم نر فيه ما يشم منه المعاندة أو المكطابرة أو المباهاة أو الادعاء أو الترفع أو التكبر أو التجبر بل بالعكس رأينا فيه تواضعاً عظيماً، وحلماً يتلاشى بين يديه حلم الأحنف وعلماً وافراً ممزوجاً باستعداد للتسليم بآراء الغير إذا ما اتضح له انه في وهم. ولم نسمع منه كلمة تجرح الأدب أو حسن المعاشرة أو الصداقة أو عفاف النفس.

ووجدنا فيه من الحافظة قدراً عظيماً ولا سيما حفظه للكتب المطبوعة والمخطوطة فانه لا يكاد يصدق. وإذا كان التأليف مطبوعاً في عدة مدن من ديار الشرق والغرب أعلمك بها وربما ذكر لك السنين. وأمر المخطوطات أمر عجب إذ يعلم محل كل مخطوط نادر من أي علم كان ويذكر لك بعض الأحيان من أوصافه المختلفة ما يدهشك اعظم الدهش.

أما كرمه فحدث عنه ولا حرج: كنا في حاجة إلى نقل كتاب خط من كتبه وكنا قد طلبنا ذلك من صديقنا يوسف اليان سركيس، فلما درى انه لنا احضر له ناسخا وبعد أن أتمه بعث به إلينا من غير أن يقبل فلسا منا. والكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>