للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتقن من الصحة. وهذا بمقام اختبار آراء أكابر الرجال. وفي ذلك الأوان كانت بغداد كعبة القصاد لكل صنف من أصحاب البضائع العلمية والأدبية. . . وفيها البغية لكل متطلب، فمن لم يأخذ عن أكابر رجالها لا يعد شيئاً، أو أن هؤلاء وأمثالهم من المشاهير قدوة الناس، ومحل اعتمادهم، وموطن ثقتهم، ويجب أن يحصل على رضاهم والإجازة بالأخذ عنهم.

لذلك كله أو بعضه تجول مترجمنا للأخذ، فحط ركابه في بغداد وأخذ عن أعاظم فضلائها، ونال شهرة فائقة في مجاهداته. وحسن اخذه، فلم يبق له بعد الدرس إلا الانقطاع، والتفرغ، لما أهب نفسه للقيام به، ولكنه لم يعد إلى موطنه الأصلي، وأراد العزلة عن الناس والتباعد عن الضوضاء في محل هادئ، فاختار الانقطاع إلى جبال هكار كأسلافه من بعض صلحاء الأمويين ممن بقدم ذكرهم وآوى في أول أمره إلى المغارات والجبال والصحارى مجرداً سائحاً بأخذ نفسه بأنواع المجاهدات مدداً مديدة. وقد نال في المجاهدة طوراً صعب المرتقى عزيز المنال تعذر على كثير من المشايخ سلوكه.

ومن ثم حصلت له المتابعة والانقياد التام لنهج زهده وسلوكه، فصارت تلك المواطن مأهولة به، وعم فيها الصلاح بسبب إرشاده، فقصده الناس بالزيارة من كل قطر، واجمع المشايخ وغيرهم في عصره على تبجيله والاعتراف بمكانته. فهو أحد من تصدر لتربية المريدين الصادقين ببلاد الشرق، وانتهى إليه تسليكهم، وكشف لهم مشكلات أحوالهم وتتلمذ له خلق من الأولياء وتخرج بصحبته غير واحد من ذوي الأحوال الفاخرة.

(راجع قلائد الجواهر ص ٨٨ و٨٥ وبهجة الأسرار ص ١٥٠).

العصر الذي وجد فيه:

إن هذا العصر طافح بأعاظم الرجال المشهورين بالصلاح والتقوى، مثل الشيخ عبد القادر الجبلي، والشيخ احمد الرفاعي، والشيخ على الهيتي، وعلي ابن وهب السنجاري وقضيب البان، وشعيب أبي مدين وغيرهم. جمع النوابغ في الزهد بحيث لم يظهر في غيره من

العصور التالية مثل هذه العصبة ثقافة وتقوى. ويصلح أن يقال أن هؤلاء خلاصة من سبقهم، وجماع مسالك القوم، ونتاج أصول

<<  <  ج: ص:  >  >>