للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخليق بي أن اذكر شيئاً من أعمال وأفكار هذا الدكتور الجهبذ قبل توصله إلى نتيجة أتعابه الكثيرة. قلت فويق هذا أنه علق بذهن المخترع من أيام فتوته أن ينشئ لغة جديدة وبقي هذا الفكر ينمو ويزداد على ممر الأيام والسنين نمو جسمه وقامته.

لما كان هذا المستنبط تلميذاً في مدرسة الفنون في ورسوفية فأول ما خطر له أن يحي معالم إحدى اللغات القديمة العلمية المائتة وكثيراً ما تردد في ذهنه وتصور أمام مخيلته أن يتخذ اللاتينية في مهمته ولكن بعد أن تروى ملياً في تلك اللغة المهجورة الاستعمال اعرض عنها، لأنه رأى أن لغة بني الأصفر لا تناسب روح العصر ولا تفي بحاجات الناس فلو كانت تقوم بمطالب العالم وضرائر الأعمال لما اعرض عنها رجال العلم ووضعوها في زاوية الإهمال؛ وعليه رجع الدكتور زمنهوف عن هذا الفكر كل الرجوع.

ولما لوى عنان فكره عن اللاتينية كان لسان حاله يقول أأتخذ الصينية ذات الفعل والاسم والأداة إذ اللفظة الواحدة تصح أن تكون تارةً فعلاً وطوراً اسماً وأخرى نعتاً ولا يستطيع الواحد أن يميزها مهما كان راسخ القدم فيها إلا بإضافة ألفاظٍ أخرى ذات معانٍ مستقلة عنها تمام الاستقلال.

أم اتخذ العبرانية العزيزة عند ذويها والرفيعة المنزلة في أعين أصحابها؛ مع أنها ناقصة المبنى والمعنى، خالية من محاسن الفصاحة والبلاغة مفتقرة إلى صيغة لا فعل التفضيل ونحوها، فأن العبرانيين إذا آثروها أمراً على آخر عبروا عن الأول بكلام موجب وعن الأخر بمنفي كما نرى ذلك جلياً في الأسفار المقدسة فقد ورد في سفر هوشع وغيره (أني أريد رحمة لا ذبيحة) والمراد: (الرحمة عندي خير من الذبيحة). ومثل ذلك شيء كثير ولا يعرب الكلام عندهم بالحروف النهائية كما في اللاتينية واليونانية ولا بالحركات الإعرابية كما في العربية ولهذا كثيراً من ينشأ عن ذلك أشكال والتباس وغموض وإبهام. وماذا

عساني أن أقول عن كثير من الألفاظ التي لا تدل دلالة صريحة على المراد بها فهذه لفظة (عالم) ومعناها (الأبد) إلا أنها لا تدل دائما على مطلق الأبدية بل كثيراً ما ترد للدلالة على مدة طويلة غير معينة وهكذا قل عن غيرها من الألفاظ التي يطول الشرح في سردها وتعدادها.

<<  <  ج: ص:  >  >>